سرشناسه : نجفي، محمدعلي
عنوان و نام پديدآور : صحبه الرسول صلي الله عليه وآله بين المنقول و المعقول/ بقلم محمدعلي النجفي.
مشخصات نشر : تهران: دارالمشعر، 1383.
مشخصات ظاهري : 144ص.
شابك : 6000ريال:964-7635-51-6
يادداشت : عربي
يادداشت : كتابنامه بصورت زيرنويس
عنوان ديگر : صحبه رسول الله(ص). شرح
موضوع : درويش، صالح، .Darwish, Salih ibn Abdallahصحبه رسول الله(ص) -- نقد و تفسير
موضوع : صحابه.
موضوع : صحابه -- فضايل.
موضوع : صحابه در قرآن.
موضوع : غزوات.
شناسه افزوده : درويش، صالح
شناسه افزوده : Darwish, Salih ibn Abdallah
رده بندي كنگره : BP223/7/د4ص 30217 1383
رده بندي ديويي : 297/478
شماره كتابشناسي ملي : م 83-2053
ص:1
ص:2
ص:3
ص:4
ص: 5
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد للَّه رب العالمين؛ والصلاة على أشرف المرسلين محمّد وآله الطيبين الطاهرين؛ وعلى أصحابهم الأوفياء وأولياءهم الأبرار.
أمَّا بعد: فقد وقفتُ على رسالةٍ صغيرةٍ من تأليف الشيخ صالح بن عبد اللَّه الدرويش، القاضي في المحكمة الكبرى بالقطيف، وكان موضوعها «صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» ولم يكن العزم على كتابة ردّ عليها، وتوضيح لما ورد فيها من مغالطات مقصودة أو غير مقصودة، وما فيها من تجاوزات نقليَّة وعقليَّة، ولكن لسوء الوضع الراهن الذي نعيشه من حيث الهجوم المتصاعد على الإسلام، وبشتّى وسائل الإعلام المتيسّرة للمهاجمين، سعياً في إطفاء نور اللَّه المتمثّل في نور الرسول الكريم وأهل بيته عليهم السلام وجدتُ من اللازم عليَّ أن أكتبَ ما يوجب كشف مغالطاته في حقّ الصحابة، وردّ مزاعمه في حبِّهم والدفاع عنهم، فكانت هذه الرسالة على العجالة، كتبتُها راجياً أن تسدّ رَأْبَ ما صدعه هذا
ص: 6
الكاتب وأمثاله. جعلها اللَّه في صحيفة أعمالي يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم.
اختلف في المراد بالصحبة للنبيّ صلى الله عليه و آله على أقوال كثيرة، ولنذكر المهمّ دون إشباعٍ له؛ فهو موضوع طويل جدّاً، ولكن توصّلًا إلى المراد ممّا يفي بالنتيجة المطلوبة من البحث؛ نقول:
قال في القاموس (1) 1:.. صَحِبَه كسَمِعَه صَحَابَة وصُحْبَةً: عاشره، وهم: أصحاب وأصاحيب وصحبة وصَحْب، واستصحبه دعاه للصحبة ولازمه.
وفي المعجم الوسيط (2) 2: صحبه أي رافقه، والصاحب المرافق، واستصحبه جعله صاحباً له، ولزمه، ودعاه إلى الصحبة.
لم يزد بعضٌ ممَّن عرَّف الصحبة على المعنى اللغوي، فقال بأنَّ الصحبة في الاصطلاح هي نفسها ما كانت عليه عند اللغويين.
ص: 7
وبعض قال باختلافهما، وهؤلاء بين مضيقٍ لدائرة الصحبة، وبين موسِّع لها.
والشاهد على ذلك ما ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (1) 3 قال: ثمَّ الصحبة من حيث الوضع تنطبق على من صحب النبي صلى الله عليه و آله ولو ساعةً، ولكنَّ العرف يخصِّص الاسم بمن كثرت صحبته، ولاحدَّ لتلك الكثرة بتقدير، بل بتقريب (2) 4.
وإليك بعض آرائهم في ذلك:
1- تعريف السمعاني؛ كما حكاه ابن الصلاح في مقدمته (3) 5: من طالت مجالسته مع النبي صلى الله عليه و آله على طريق التبع والأخذ، بخلاف من وفد إليه وانصرف بلا مصاحبة، قالوا: وذلك معنى الصحابي لغةً (4) 6.
وهو ضعيف؛ لكون طول المكث مؤثراً في المنزلة والاختصاص به أكثر من غيره ليس إلّا، علاوةً على مخالفته لمعناهااللغويّ.
2- ما عن سعيد بن المسيب: من أنَّه لم يكن يعدّ صحابياً
ص: 8
إلا من أقام مع رسول اللَّه سنةً أو سنتين، وغزا معه غزوةً أو غزوتين (1) 7.
وسيأتي أنَّ هذا معنى استعماليّ للصحبة وليس تعريفاً حدّيَّاً له.
3- الصحابي من طالت صحبته وروى عنه، حكي عن جماعة.
فيخرج به من قلَّت صحبته، وقلَّ مكثه مع النبي صلى الله عليه و آله.
4- أنَّه من رآه بالغاً، وقد حكاه الواقدي.
فيخرج من كان قد رآه مميزاً قبل بلوغه، ومات النبي ولمَّا يبلغ.
5- أنَّه من أدرك زمنه وهو مسلم، حكي عن ابن عبد البر وابن منده.
فيشمل هذا كلّ من أدرك زمنه وهو مسلمٌ وإنْ لم يره، وإنْ مات بعد ذلك على غير الإسلام.
6- أنَّه من اختصَّ بالرسول واختصَّ به الرسول صلى الله عليه و آله وهذا أضيق التعاريف؛ لخروج الكثير من الصحابة بذلك عن كونهم صحابةً.
ص: 9
7- أنَّه كلّ مسلم رأى النبيّ صلى الله عليه و آله.
وهذا هو المنقول عن البخاري (1) 8، فتشمل كلّ من رآه مسلماً ولو لم يصحبه، أو مات على غير الإسلام.
وهذا ممَّا لايمكن الالتزام به قطعاً.
والواقع أنَّه لم يسلم أيٌّ من هذه التعاريف عن الإشكال، بعدم المانعيَّة في بعض منها، أو عدم الجامعيَّة في آخر، كلزوم خروج بعض من ثبتت لهم الصحبة عن كونهم من الصحابة كجرير بن عبد اللَّه البجلي.
ويلزم منها- أيضاً- خروج مثل ابن أمّ مكتوم، الذي كان كفيفاً، مع أنَّه مسلَّم الصحبة، أو من أسلم ثمَّ ارتدّ ومات على الردَّة، كعبداللَّه بن جحش وعبداللَّه ابن خطل.
كما يلزم على مثل تعريف سعيد بن المسيب و أصحاب الأصول خروج جويبر ابن عبد اللَّه؛ فإنَّه ممَّن لم يطل مكثه مع النبي صلى الله عليه و آله ولم يغزُ معه غزوةً قطّ، مع أنَّه معدود في الصحابة.
وعلى كلّ حال، فقد مات النبيّ صلى الله عليه و آله عن مائة وأربعة وعشرين ألفاً ممّن يعدُّ صحابياً، وعلى ما سلف من تعريفاتهم يلزم خروج الكثير ممَّن عدَّ صحابياً.
فلابدَّ إذن من اشتراط اللقاء كما فعل الشهيد، والسيّد علي
ص: 10
خان صاحب الدرجات الرفيعة، فقد عرَّف الصحابيّ بأنَّه: من لقي النبيّ صلى الله عليه و آله مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تخلّلت ردّته بينهما (1) 9.
لعلّ الكثير من التعاريف التي مرَّت علينا هو في واقعه توضيح لما استعمل من المفهوم عند الصحابة أنفسهم، إما بتضييق وإما بتوسعة له، لا أنَّه تحديد منطقي لمفهومها.
ومن نماذج استعمال الصحبة في معنى أضيق دائرةً: ما ذهب إليه أنس بن مالك من أنَّ رؤية النبيّ صلى الله عليه و آله غير كافيةٍ في اعتبار الرجل صحابيّاً، فقد سئل: هل بقي من الصحابة غيرك؟ فقال: بقي أناسٌ من الأعراب، أمَّا الصحبة فلا (2) 10.
كمامرَّ نقل اشتراط سعيد بن المسيب لكي يكون الرجل صحابياً أنْ يقيم مع رسول اللَّه سنةً أو سنتين أو أن يغزو معه غزوةً أو غزوتين (3) 11.
ولكنَّ السمعانيّ ألغى اعتبار زمنٍ محدّدٍ لمعنى الصحبة أكثر
ص: 11
ممَّن سبق فقال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحبة على كلِّ من صحب النبيّ شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه.
ولكنَّ أحمد بن حنبل ضيَّق ذلك المعنى فقال: أصحاب رسول اللَّه كلّ من صحبه وروى عن النبيّ ولو حديثاً أو كلمة (1) 12.
فإنَّ بين هذا التعريف، وما ذكره السمعاني، عموماً مطلقاً، والوجه اشتراط أحمد بن حنبل الرواية، وهي فرع الرؤية طبعاً.
ولكنَّ الغزالي قال: لاينطبق اسم الصحبة إلّاعلى من صحبه... إلى أن قال: ولكنَّ العرف يخصّصه بمن طالت صحبته.
وقال ابن حجر العسقلانيّ- بعد أن ناقش التعريفات السابقة-: أصحّ ما وقفتُ عليه في تعريف الصحابيّ أنَّه من لقي النبيّ مؤمناً به، ومات على الإسلام (2) 13.
و أمَّا ما اختاره هذا الكاتب الذي نحن بصدد المناقشة لما كتبه؛ فالصحابي عنده: من آمن بالنبي صلّى اللَّه عليه (وآله) وسلّم، وصحبه ولو لفترةٍ من الزمن ومات على ذلك، وأمَّا طول الصحبة فهو يؤثّر في المنزلة ليس إلّا (3) 14.
وهذا قريبٌ جدّاً من تعريف ابن حجر العسقلانيّ في اعتبار
ص: 12
الإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله والموت على ذلك.
وأمَّا ما تُعْرَفُ به صحبة الصحابيّ ومايثبت له تلك الصفة، فهي: الإجماع، أو التواتر، أو الشهرة.
ولا بأس بالتعليق على ما عرَّف به هذا الكاتب للصحابيّ، فنقول:
قد اشتمل تعريفه للصحابيّ على أمور:
الإيمان بالنبيّ، والصحبة له، والموت على ذلك، وطول الصحبة مؤثّر في المنزلة.
فأمَّا الإيمان به صلى الله عليه و آله:
فهو شرطٌ مهمّ وأساسٌ في الصحابيّ، ولكن لابدَّ من إدامة هذا الإيمان، ولعلّ الكاتب التفتَ إلى هذا فقال بعد ذلك: ومات على ذلك.
وأمَّاالصحبة له:
فهي جزء الموضوع، لتحقّق معنى الصحابيّ لغةً في من يرافقه صلى الله عليه و آله بل تمام الموضوع في من يصحّ له ادعاء ذلك.
وأمَّا الموت على ذلك:
فإنْ كان يقصد الموت على الإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله فهو المطلوب لنا أيضاً، وهو تامّ، وإنْ كان مقصوده الموت على الصحبة فهو ممّا لادليل عليه في الصحابي، بل الكثير منهم قد هاجر ورجع إلى وطنه، أو أرسله النبي صلى الله عليه و آله إلى بلد ولم يرجع عنه، فهل يخرج عن
ص: 13
كونه صحابياً؟ كلّا وأَلْفُ كلّا.
بقي أمرٌ:
وهو أنَّ تخلّل الردّة بين الإيمان والموت، هل يكون مخلًا بالصحبة أم لا؟
ظاهر الجمهور عدم ذلك، فلو آمن بالنبيّ، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ رجع وحسن إسلامه وإيمانه عُدَّ صحابيّاً، ولم يرتفع عنه معنى الصحبة؛ على تردّدٍ في هذا لمعارضته لبعض الآيات والروايات أوّلًا، ومن حيث صدق الصحبة ثانياً.
نعم، لو قيل بأنَّه لم ينتفِ معنى الصحبة عنه حتى يحتاج إلى البحث في صدقه أمكن ذلك.
وأمَّا بالنسبة إلى الرواية عنه صلى الله عليه و آله: فلم يشترطه هذا الكاتب- وهو الحقّ- فإنَّ الرواية عن النبيّ ليست فصلًا مقوِّماً لمفهوم الصحبة حتى يدَّعى عدم تحققه بدون هذا الفصل، بل يمكن عدّ الرجل صحابياً وإن عدَّ فيمن لم يروِ عنه صلى الله عليه و آله.
والأمر الأخير المتبقى حول التعريف هو اشتراط الاختيار في ذلك؛ فلو كان مضطراً أو مكرهاً على الإيمان، لم يتحقّق منه أهمّ شرط في الصحبة، وإن تحقّقت صحبته للنبيّ صلى الله عليه و آله بمعناها اللغوي أو الاصطلاحي على بعض التعريفات السابقة.
وكذا يخرج عن تعريفه عند من يشترط في التعريف الإيمان عن معرفة بشخص النبيّ، فمن آمن به وصحبه دون معرفة له على
ص: 14
أنَّه نبي اللَّه محمّد صلى الله عليه و آله الذي أرسله اللَّه للخلق كافَّة، فهو ليس بصحابيّ، على هذا.
وأمَّا عدم اشتراط الرؤية من قبل الكاتب:
فهو إمَّا لالتفاته لدخول ذلك في لفظ الصحبة، وإمَّا لإهماله لهذا الشرط.
ولكن لا يخفى أنَّ الاكتفاء في تحقّق الصحبة بكلّ من آمن بالنبيّ، وإن لم يره- أي مع عدم اشتراط الرؤية- يوسِّع دائرة الصحبة لمثل من آمن به ولو في بلد آخر، فاشتراط رؤية النبيّ أمرٌ مهمٌّ في ثبوت الاتّصاف بالصحبة، وإلّا فمن آمن به ولم يره، أقوامٌ كثيرون يعدّون بالآلاف، إمَّا لعدم قصدهم لرؤيته، وإمَّا لتعذر ذلك عليهم، وإمَّا لتوجّههم لاشتراط رؤيته، ولكنَّهم لم يُوفَّقُوا لذلك، كما نقل عن أبي ذؤيب الهذلي حيث رأى النبيّ بعد موته وقبل دفنه (1) 15 فلم يعدّ من الصحابة، وإمَ ا لعدم كونهم من أهل عصره أصلًا، كالتابعين ومن تلاهم، فكلّ من جاء بعد موت النبي صلى الله عليه و آله ممَّن آمن به ينطبق عليه هذا المعنى، مع عدم صدق الصحبة.
ثمَّ إنَّ اشتراط الإيمان مهمٌّ باعتبار آخر وهو: أنَّ ذلك يُخرج من دخل في الدين خوفاً من السيف، أو من دخل فيه رغبةً في المال أو الجاه، وليس إيماناً بالدين، ولعلّ في بعض الروايات
ص: 15
المشيرة إلى أسباب الهجرة توضيحاً لهذا المعنى، كقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنياً يصيبها، أو إلى امرأة يحبّها، فهجرته إلى ما هاجر إليه..» (1) 16 فهذه العبارة من الرسول صلى الله عليه و آله وإن كانت في مقام بيان الهجرة المطلوبة وهي الهجرة إلى اللَّه فقط، لكنَّها تبيّن لنا- من منظور آخر مطلوبيَّة الإيمان بالدين من أوّل عمره إلى آخره، ولذا فيمكن التشكيك في صحبة مَن آمن بالنبيّ مدَّة حياته وانقلب بعد موته صلى الله عليه و آله وأظهر ما كان مُخفياً له من أمارات النفاق والجحود بالدين وبأوامره ونواهيه.
والأمر المهمّ الذي ندّعيه- كما سيأتي مع أدلته- هو أنَّ الصحبة تمثّلت في الصحابة بصورتين وفي فئتين منهم:
1- صورة تحكي واقع أولئك الصحابة وهي أنَّهم أطاعوا النبي في كلّ شي ء وسلَّموا له في أوامره ونواهيه، فهؤلاء هم الذين وردت فيهم الآيات المادحة والروايات المعرِّفة لهم بصفات مخصوصة (2) 17 والمبيّنة لمقاماتهم عنداللَّه عزَّوجلَّ.
2- صورة تحكي واقعاً مزيَّفاً، وملبّساً بقناع يخفي وراءه الكثير من الحوادث التي صدرت منهم بعد وفاته صلى الله عليه و آله والتي أخبر
ص: 16
بها النبيّ صلى الله عليه و آله وحذَّر من الوقوع فيها، بل حذَّر القرآن منها في بعض آياته، قال تعالى: أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُم عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1) 18،
وقال تعالى: وَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِه (2) 19 وقال صلى الله عليه و آله: «لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (3) 20.
وعليك بالتتبع لروايات إخبارات النبيّ صلى الله عليه و آله بالمغيّبات، وبآخر الزمان، وستجد الكثير ممَّا حدّثناك عنه موجوداً في طيَّات تلك الصفحات، والتي لم يرغب هذا الكاتب أن يكشف الستار عنها خوفاً من ظهور ما لايمكنه الجواب عنه، فيقع في ما لاتحمد عقباه.
وأهمّ أمرٍ نمنع من تحقّقه كلازم للصحبة- وهو مدّعى الكاتب- أن تكون الصحبة بنفسها عاصمةً لمن وُصِفَ بها.
وسوف نسرد للقارى ء المحترم لاحقاً مجموعة من أسماء الصحابة ممَّن لم يحسن الصحبة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله فضلًا عمَّا صدر
ص: 17
منهم بعد وفاته (1) 21.
وعلى كلّ حال، فما ذكره من معنى للصحبة لايمكن الالتزام به على إطلاقه، بل حتّى الكاتب نفسه لو التفتَ وتأمّل في ما عرَّف به الصحابيّ، لتوجَّه لما يلزم عليه من ذلك فتخلَّى عنه.
فالصحابيّ- عندنا-: من رأى النبيّ صلى الله عليه و آله وآمن به وصدَّقه في كلّ ما جاء به، وسلَّم بكلّ أوامره ونواهيه قلباً واعتقاداً وعملًا مدَّة حياته ومات على ذلك.
ومن أهمّ أوامره، والذي ما فتى ء يكرّره حال حياته، هو التمسّك بولاية أمير المؤمنين ويعسوب الدين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
كما أنَّ من أهمّ نواهيه منعه عن مخالفة أمير المؤمنين، و الانحراف عن بيعته وجادَّته، فإنَّه عليه السلام مع الحقّ والحقّ معه، كما نطقت بذلك النصوص النبويَّة المستفيضة إن لم تكن متواترة (2) 22.
ص: 18
هذا كلُّه من جهة أصل معنى الصحبة لغة واصطلاحاً.
وأمَّا من جهة أثر الصحبة؛ فنحن الشيعة الإماميَّة نعتقد بأنَّ ذات الصحبة للنبيّ صلى الله عليه و آله ليست موجبةً لإثبات صفة مدحٍ لم تكن متحقّقةً في الشخص بدونها، وكذلك الصحبة لاتوجب نفي ما أُلصِقَ بالشخص ممَّا دلَّت الروايات عليه (1) 23.
وهذا هو القول النصَفُ الذي يأخذ الحقَّ ممَّن ظلمه، حيث نُسِبَت الصحبة لمن لم تتحقّق فيه، حيث قد وُجِدَ الكثيرُ ممَّن ادعي له المصداقيَّة للصحبة، ولم يكن كذلك، أو كان منهم ثمَّ بَانَ عنهم بأنْ أساء الصحبة ولم يحترم حقَّ العِشْرَة مع النبي صلى الله عليه و آله في حياته أو بعد مماته صلى الله عليه و آله.
إذ أنَّ ممَّن ادّعيت له الصحبة من ثبت ارتداده عن الدين بعد أن تَدَيَّنَ به، وهم كثر، وليس ذلك ممَّا يدعو للعجب، إذْ أنَّ من بين الصحابة- على ما عرَّفوا به الصحابيّ الذين يعدّون بالآلاف- من ليس مصوناً عن السُنَن التاريخيَّة أو الاجتماعيَّة، أو معصوماً عن الآثام النفسيَّة للإنسان ككائن بشريّ قد تغلب عليه النفس الأمَّارة بالسوء، ويغلب عليه هواه، وحبُّهُ الجاهَ والسلطانَ لأن يرتكب ما يخالف أوامر الرسول صلى الله عليه و آله ونواهيه، والشواهد على
ص: 19
ذلك كثيرة من الصحاح فضلًا عن كتب التاريخ والسيرة.
وبعد هذه المقدمة ندخل في البحث ضمن نقاط:
النقطة الأولى: بعد أن استفتح الكاتب موضوعه ببضع آيات من الكتاب العزيز ذكر أنَّ الآيات صريحةٌ في التلازم بين الرسول الكريم وأصحابه، من حيث تبيينها لوظيفة الرسول بين صحبه، وهو قد قام بها أفضل قيام، وعلَّمهم وربَّاهم أفضل تربية (1) 24 فلا شكَّ وأنَّ المتربّين تحت يده، والمتعلّمين بتعاليمه سيكونون أفضل الناس بعده صلى الله عليه و آله.
ولنقرأ معاً هذه الآيات، لنرى هل أنَّ في شي ءٍ منها إشعاراً، فضلًا عن التوصيف، فضلًا عن الدلالة على ما يدعيه هذا الكاتب، من تلازمٍ أم لا؟
قال تعالى: رَبَّنَا وَابعَثْ فِيهِم رَسُولًا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِم إنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم (2) 25.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِينَ رَسُولًا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين (3) 26.
ص: 20
فما ترشد إليه هذه الآياتُ هو أنَّ اللَّه بعث النبي صلى الله عليه و آله لتعليم الناس ولتزكيتهم وتربيتهم، فهو بيانٌ للغاية من البعثة، ولايختصّ ذلك بخصوص الصحابة، فليس فيه ما ادّعاه الكاتب من التلازم بين الرسول كمعلِّم والصحابة كمتعلّمين، بتوسط تحقّق تلك الغاية فيهم، بل فيها دلالةٌ على عكس مدّعاه ومطلوبه، وهو أنَّهم قبل مجي ء النبيّ صلى الله عليه و آله وقبل تعليمهم كانوا في ظلمات الجهل والضلال، ولكن بعد أن علَّمهم النبي صلى الله عليه و آله ما ينبغي لهم العلم به، وما ينبغي لهم عمله؛ هل اهتموا جميعاً لِمَا أمر به صلى الله عليه و آله؟ وهل اتّبعوه؟
وهل خرجوا من الضلال إلى الهدى بأجمعهم؟.
هذا ما لاتتحدّث عنه تلك الآيات، و من كان له مسكة من عقلٍ يتوجّه إلى عدم الملازمة بين أن يكون المعلّم كاملًا، وبين أن يكون المتعلّمون استفادوا مما علَّمهم، والوجدان قائمٌ على ذلك.
وإلّا فلو تمَّت تلك الملازمة لحكمنا بتزكية كلِّ الأمم والشعوب التي سبقت ملَّتنا، إذ أنَّ الأنبياء- قبل نبيِّنا صلى الله عليه و آله- قد أرسلوا إلى أقوامهم ليعلَّموهم وليقوموا بتزكيتهم.
ولكنَّ هذا اللازم واضح البطلان كما لا يخفى.
وعلى هذا، فلا ربطَ بين ثبوت كلّ تلك الصفات للنبي صلى الله عليه و آله
ص: 21
وبين عدم ثبوتها لمن كان معه من الناس؛ ممَّن قد يتوجّه لتعاليمه، وقد لايتوجَّه لها، لعارض أو لمانع، ولو كان المانع هو عدم الرغبة فيها، فقد ورد عن بعضهم اشتغالهم بالصفق في الأسواق، فقد روى البخاري عن أبي هريرة: «إنَّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنَّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم» (1) 27. وفي أخرى: «كان يشغلهم صفق بالأسواق» (2) 28 وفي ثالثة مثلها (3) 29 ورابعة كذلك (4) 30 وفي خامسة عن أحمد في مسنده (5) 31 وفي سابعة «من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتهم في الأسواق، من الأنصاركانت تشغلهم أرضوهم والقيام بها» (6) 32.
إذن، فإمَّا أن ينكروا هذه الروايات، ويلزم منه أحد أمرين:
1- أن يردّوا بعض ما اتّفق على صحّته، وهو ما وجد في صحيح البخاري ممَّا يرويه هذا الراوي، ولم يكن معلّقاً، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك والردّ لكثير من روايات البخاري.
2- أن يمنعوا صدور مثل هذه الروايات عن أبي هريرة،
ص: 22
وهذا أيضاً يفتح الباب للتشكيك في الكثير من مرويَّات هذا الرجل (1) 33.
فليس باختيار الكاتب أن يمنع أو أن يُثبت ما شاء له قلمه أو مِقَصُّ رقابته، وقد اتفق العلماء، وممَّن يعتمد على قوله منهم، على صحَّة كلّ ما رواه البخاري في صحيحه، مما لم يُعَلِّقْهُ، ووجوب العمل به. فهو إلزام لهم بما لامفرَّ منه.
وإمَّا أن يعتقدوا بصدور هذه الروايات، ويتمُّ الحفاظ على مرويّات البخاري، إلّا أنَّها ستكون مبتلاة بهذا الإشكال، وهو انشغال الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله وعن تعاليمه، فيثبت مدَّعانامن
ص: 23
عدم توجّههم إلى تعاليم النبي صلى الله عليه و آله (1) 34.
وكذا يلزم عليهم ما ندّعيه في المقام من عدم الملازمة بين ما بُعث لأجله النبي صلى الله عليه و آله وما أدَّاه من وظيفة، وبين التزامهم بتعاليمه صلى الله عليه و آله فيثبت مدَّعانا من عدم التزام الكثير منهم بتعاليمه، بل عدم مداومة حضورهم عنده للتعلّم والاستفادة من علمه صلى الله عليه و آله والأخذ عنه صلى الله عليه و آله.
ثمَّ ما الذي يقصده من قوله: «نصوص صريحة»؟
فأيّ صراحة فيها؟ وليس من حجَّة عند العقلاء إلّا النصوصيَّة أو الظهور، والفرض أنَّها ليست نصَّاً في المدّعى، كما لايدعيه هو، فإنَّ النصّ ما لايقبل التأويل، ولا ظهور- أيضاً- فإنَّ الظاهر منها ما ذكرناه آنفاً، وما عداه يحتاج إلى قرينة معيّنة، أوصارفة عن غيره، وأنَّى له هذا!!؟ إن كان يتكلّم على طريقة العرف في محاوراتهم!.
النقطة الثانية: لقد ادّعى أنَّ من كمال نعم اللَّه على نبيَّه أن اختار له خير الأصحاب فهماً ورجولة وشجاعة.... إلى آخر ما ذكر.
وهذا أمر مسلَّم في الجملة ولكن.. لنا معه في ذلك عدَّة مواقف:
ص: 24
الموقف الأول: لا شكَّ أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لما اصطفى نبيه لم يستشر أحداً في ذلك وهذا معلوم لكل أحد، وحينما أرسله فإنَّما أرسله إلى الناس كافَّة، ولكنَّ التبليغ والانذار كان أولًا لقومه، ثمَّ شيئاً فشيئاً تدرجت الدعوة حتى عمَّت الخافقين، ولم يكن قبول دعوته من قِبَل الناس شرطاً في صحَّة تلك الدعوة، بحيث إنَّه لو لم يقبل أحدٌ منهم دعوته لزم بطلان نبوته، وهذا مسلم أيضاً، إذن فالنبي نبي ورسول من اللَّه عزَّ وجلَّ سواء قبلوا أم رفضوا، فهو نبي بالحق قد جاء من عند الحق شاؤا أم أبوا، اتبعوه أم خذلوه.
ثمَّ إنَّ دعوته لهم إنَّما كانت لرفع جهالتهم ودحض باطلهم وضلالهم، فهم الذين كانوا محتاجين لدعوته، وبمجيئه لهم تتم النعم عليهم وتكمل معارفهم، فهم أهل الحاجة للتكميل بالتصديق بنبوته (1) 35. ولكن، هل صدَّقوا أم كذَّبوا؟
هذا ما لا يفصح عنه الكاتب مخافة انكشاف بعض تلك الصفحات المظلمة من تاريخ مَنْ نسب أو ادعى لهم الصحبة، ومن والاهم ليس إلّا.
الموقف الثاني: ما يتعلق بدعواه أنَّهم خير الأصحاب فَهْمَاً.
فهذا ما تكذّبه الروايات المتناثرة هنا وهناك في صحاحهم
ص: 25
وغيرها، وهاهو الخليفة الثاني يقول: «ندمتُ على أمورٍ لم أسأل عنها رسول اللَّه قبل وفاته.. ومنها أنَّه مات رسول اللَّه ولم أسأله عن قوله تعالى: وفاكهةٍ وأبَّا (1) 36 وكفى بهذا نفياً للفهم الكامل عند هذا المؤلّف، وإلّا فالشواهد كثيرة.
وأمَّا الرجولة؛ فهل يقصد أنَّهم كانوا أصحاب كلمةٍ نافذةٍ؟
وهذا المعنى الكنائي المراد منها.
أم يقصد أنَّهم كانوا أصحاب مواقف عظيمة في الحقّ، فهذا لاينكره أحدٌ، لكنَّه كان لبعضهم لامطلقاً.
وكذا الكلام في صفة الشجاعة، وقد كان المبرَّز فيها أمير المؤمنين عليه السلام بل إنَّ أمر شجاعته ممَّا ثبت بالتواتر المعنوي.
ولكنَّ غاية ما يثبت بالذي ساقه المؤلّف: أنَّ بعض صحابة الرسول كانوا أهل فهمٍ ورجولةٍ وشجاعةٍ؛
نقول له: ثمَّ ماذا؟ وهل يتصوّر منه أن يثبت به أنَّ كلّ صحابة النبي صلى الله عليه و آله وعددهم ينوف على الآلاف، كانوا كذلك!!؟
إنَّ هذا لممَّا يُضحك الثكلى!.
الموقف الثالث: ما رام إثبات مدّعاه من خلاله وهو قول النبي صلى الله عليه و آله: «الناس معادن فخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في
ص: 26
الإسلام، إذا فقهوا» (1) 37.
فبالإضافة للمناقشة في سند هذه الرواية، فإنَّ المناقشة في دلالتها واضحة، بل حتّى لو تمَّت دلالتها فغاية ما تثبته هو أنَّ كون الرجل من أهل الخير في الجاهليَّة فهو كذلك في الإسلام، بشرط التفقّه في الدين، وهذا أجنبي عمَّا يروم المؤلف إثباته إطلاقاً.
و لاينقضي عجبي من هذا الكاتب، فإنَّ كلّ استدلالاته بهذه الصورة، فهو يتوهّم أو يتقصّد هذا النحو من الكلام، بأن يذكر الوصف المطلوب تحقّقه من الصحابة، ومن ثمَّ يدّعي ثبوته فيهم كلِّهم، وكأنَّه أمرٌ مسلَّمُ الثبوت، وممَّا لايقبل النقاش أو الإنكار.
أخي الكاتب- وأنت يا أخي القارى ء- ثبِّت العرش ثمَّ انقش، فلو قال لك شخص: إنَّ في الطريق مَن اسمه زيد، فهل يُثبِت هذا أنَّ كلَّ مَن في الطريق، اسمه زيد!!؟
الموقف الرابع: إنَّ الإنسان العاقل يسير بقدر ما يسير به
ص: 27
الدليل مرشداً لطريقه، فأنَّى يوجهه يختار، ولا ينبغي له أن يوجه هو الدليل ويُكيِّفُه ويُطوِّعه كما يشاء، فإنَّ هذا هو الانحياز، وعدم الحياد العلمي بأن تجعل الدليل طوع هواك وطبق رؤاك، وهو أمر ممقوت من كل أحد، ولذا نقول: قد صحَّت الآيات بأنَّ الرسول جاء لتزكية المدعوِّين ولتعليمهم وتربيتهم، وقد فعل ما كُلِّف به وأدَّى ما حُمِّل، ولكن وردت روايات تاريخيَّة موثقة أوأحاديث مصححة ممَّن لا يمكن الطعن عليه فيها، وهي تثبت أنَّه قد صدر من بعض أولئك الصحابة ما يخالف تلك التربية التي أداها النبي صلى الله عليه و آله بل ما يخالف الدين كلًّا، والعقل السليم، فيلزمنا أحد أمرين:
إمَّا أن نقول- والعياذ باللَّه- إنَّ الرسول قد علَّمهم وربَّاهم على ذلك الأمر المشين. وهذا هو الكفر بعينه، كما هو بعيد عن ساحة قدسه صلى الله عليه و آله.
وإمَّا أن نقول بأنَّ ما صدر منهم إنَّما هو من فعلهم الخاصّ بهم، والذي لم ينصَّ عليه النبي صلى الله عليه و آله بل لايرتضيه، وهو مخالف لما أراده صلى الله عليه و آله (1) 38.
ولا شكَّ أن لازم القول الأوّل رمي النبي صلى الله عليه و آله بالنقص، ونسبة عدم حسن تبليغ الرسالة إليه! وهذا ينافي الآيات والروايات
ص: 28
المثبتة لعصمته صلى الله عليه و آله وأنَّه لم يقصّر في التبليغ.
بينما لامانع من الالتزام بالقول الثاني، إذ ليس فيه نسبة طعن لساحته صلى الله عليه و آله وليس فيه إلّاإثبات ما يمكن أن يصدر من أيّ فرد غير معصوم قابل لصدور الخطأ منه (1) 39.
إن قلتَ: يمكن لنا أن نختار شقّاً ثالثاً وهو تكذيب تلك الروايات.
قلتُ: مضافاً إلى كثرة تلك الروايات بحيث لا يمكن تكذيبها كلّها، فإنَّ الموجب لتكذيب الخبر ما هو؟
إنَّ الموجب لتكذيبه: إمَّا مخالفته لضروري النقل أو ضروري العقل، وإمَّا وجود ما ينهض بمعارضته من النصوص الأخر، ولا يخفى أنَّ فيما ينقل من وقائع وقعت أو حوادث صدرت من بعض الصحابة، والالتزام بذلك فيها ليس فيه خلاف لضروريٍ من عقل أو نقل، كما ليس فيها روايات أخرى معارضة لها حتى يلزم
ص: 29
تساقطهما، والفرض عدم وجود آية تثبت العصمة لهم جميعاً حتى يصار إلى تأويل تلك الروايات مهما أمكن.
كما أنَّ الروايات قد وردت لنا من قبل أشخاص لا يمكن الطعن عليهم كما لو كانت في الصحيحين أو المسانيد الأخرى بشرط الشيخين، وهكذا في كل رواية، ولو كانت من كتاب غير تلك الكتب، وكانت جامعة لشرائط صحَّة الخبر.
ولو التزم بسقوطها للزم التخلّي عن علم الحديث والرجال، وبالتالي يجوز لهم أخذ كلّ حديث دون البحث في سنده أصلًا، وهو كماترى!.
الموقف الخامس: لايمانع أحدٌ، بل ممَّا لايُنكَر: أنَّ الرسالة المحمديَّة، و الهدي النبويّ الشريف هو نعمةٌ عظيمةٌ، بل هي من أعظم النعم على الصحابة بل على الأمَّة جمعاء، وكما قال تعالى في آخر الآية المذكورة: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاء (1) 40.
ولكنَّ السؤال الذي يبقى بلاإجابة بعدُ: هل أدّوا حقَّ تلك النعمة؟ وهل شكروا للَّه ذلك الفضل الذي هم فيه؟ فقد قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى (2) 41.
فهل تودَّدوا لذوي القربى أو عَادَوْهُم؟.
ص: 30
وقد كان هذا أمراً يسيراً في مقابل تلك النعمة العظيمة، والفضل الإلهي الكبير، والذي لم يؤدّوه كما ينبغي، وقد دلَّت على ذلك الروايات الكثيرة في الصحاح وغيرها.
الموقف السادس: قد قالوا في فقه القضاء: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر».
وقد ادَّعى الكاتب: أنَّ هناك ملازمةً بين المحبَّة للرسول، والاعتقاد بأنَّه أدّى الأمانة، وبين تعديل الصحابة الذين أخذوا عنه الحديث، وعاش بين أظهرهم، وأنَّ الطعن فيهم طعنٌ في إمامهم وقائدهم!
فما هي بينته على ذلك!؟ ففي كلّ ما عرضه لم يأتِ لنا بدليل على ما ادَّعى، لا شكَّ إذن أنَّه يرسل الكلمات جزافاً.
فإذا تبيَّن للمنصف العاقل أن لابيّنة للمدعي، ظهر له أن لاملازمة بين الأمرين قطّ، بل قد يجتمعان في واحدٍ ويفترقان في آخر، والتاريخ وتراجم الرجال فيها من الشواهد ما تُملأ به الصفحات.
النقطة الثالثة: وفيها عدَّة إشارات مع هذا الكاتب:
الإشارة الأولى: لقد حاول ثانية أن يضرب على وتر الصحبة والملازمة بين المعلّم والمتعلّم؛ فادعى بأنَّ وِزَانَ الرسول مع صحبه وِزَان رئيس القوميَّة أو الدولة مع أعوانه والمقربين منه، فيما لو جاء شخص يدعي انتسابه إليهم، ولكن يطعن في المقربين من
ص: 31
الرئيس ويصفهم بالخونة، فلاشكَّ أنَّ هذا الرئيس سيغضب لذلك ولن يرضى أن يوصف المقربون منه بتلك الصفات، وهنا عدَّة أمور:
الأول: لقد قاس الرسول الأعظم بمقياسه الصغير على أنَّه رئيس قوميَّة أو دولة، ولكنَّ هذا القياس مع الفارق؛ لأنَّ رئيس الدولة هو الذي اختار بطانته وقرَّبهم وجعلهم مختصين به، بينما لم يجعل الرسول جميع صحابته من المقربِّين له، بل كلامك أخذ للدعوى في الدليل في الواقع، وهو مصادرة على المطلوب.
علاوةً على تفرّع ما ذكره عن عقيدته القاصرة في النبي صلى الله عليه و آله بأنَّه قابل للخطأ، ولذا صحَّ له مثل هذا القياس، والحقّ عندنا عدم صحَّة ذلك، بل الأدلّة العقليَّة والنقليَّة قائمة على بطلان ذلك، وهي قائمةٌ على أنَّه صلى الله عليه و آله معصوم عن الخطأ في كلّ شي ء وكفانا دلالةً قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى* إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى (1) 42 الثاني: لو اكتشف أحد الرعيَّة خيانةً من مقرّبي الرئيس ونسبها إلى الرئيس أو كانت سوف تحسب عليه بما سيشوِّه سمعته عند الملأ، فلاشكَّ أنَّ كشف هذه الخيانة وتبرئة الرئيس منها ليست ممَّا يغضب الرئيس، بل هي ممَّايُسرُّه!!؟
ص: 32
الثالث: قد جعل اعتبار الرسول لصحبه ولقربهم منه كاعتبار رئيس البلد أو القوميَّة لذلك، وهذا لو سلَّمناه في حدّ ذاته (1) 43 لم نسلِّم صدوره من النبي صلى الله عليه و آله بنحو عام، فلنا أن نسأله: هل كان اعتبار الرسول لكلّ الصحابة أو لبعضٍ منهم؟ وهم خصوص من كان يرى فيهم الإخلاص والتقوى والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه؟ لا أشك في عدم اختيارك للشقّ الأوّل بل لابدّ أن ترجّح للشقّ الثاني، وإلا فتعالَ لنقرأ تاريخ الصحابة واحداً واحداً، وَلْنُرِي العَالَمَ أَجْمَع كيف أنَّ بعض من تسمِّيهم بالصحابة كانوا على شكّ من الرسول في إخباراته (2) 44؟ وفي أوامره ونواهيه (3) 45؟ بل حاول البعض منهم التعرّض لقتل النبيّ حين دحرجوا عليه الدباب (4) 46 بل لم يقبلوا منه قط تبليغاته المتكررة في
ص: 33
ابن عمه ووليّ أمرهم بعده بلافصل عليّ بن أبي طالب (1) 47.
الثالث: ونسأل الكاتب المعاصر ونخاطب وجدانه: ألم تجلس على مقاعد الدراسة عبر ترقياتك العلميَّة، ووجدت من الطلاب من لم يوافق أستاذه في عرض بعض الأمور أو في القبول بها؟ بل ألم يكن منك أنت بنفسك مثل هذا الأمر في أن ترفض أو تعارض بعض ما يعرضه أستاذك ومعلّمك من أمور سواء في مادة البحث أو في منهجه؟ بل حتّى ولو لم تبدِ هذا المعنى لأستاذك حينئذٍ لكن ألم يكن في قلبك شي ءٌ منه؟
كل هذا وكلاكما غير معصوم عن الخطأ في اللسان ولا في الجَنَان ولا في الاعتقاد، ولكنَّ الفارق بينكم وبين الصحابة- مع أنَّهم كانوا كذلك غير معصومين- أنَّ معلمهم كان معصوماً بإجماع المسلمين وضرورة العقل والنقل، وأنَّهم رأوا النبي صلى الله عليه و آله دونكم، وإلى هنا نصل إلى نتيجة وهي:
ص: 34
أنَّ غير المعصوم قابل للخطأ ولكنَّ المعصوم لا نتصور تحقق أو صدور الخطأ منه، وأنَّ الاشتباه من غيره- ولو كان هذا الغير هو من الصحابة- يمكن تحققه وصدوره، وأنَّ الاختلاف مع المعلِّم يمكن صدوره أيضاً، ولكنَّ الأمر المهم والمتبقي هنا هو أنَّ الاختلاف مع المعلّم أمر طبيعيّ لو كان غير معصوم وقابلًا للخطأ، لأنَّه بشرو لكنَّ اختلاف الصحابة مع نبيهم ومعلمهم أليس قبيحاً؟ وعدم انصياعهم لأوامر نبيهم أليس قبيحاً؟ بل ألم يكن عدم اعتقادهم بما يقول فضيعاً منهم وأمراً شنيعاً؟
لا تقل لي: كلّ ذلك لم يصدر، وأنَّ كلّ ما ذكره المؤرّخون محض أساطير وأكاذيب لفَّقوها.
فإنَّ ما أستندُ إليه في دعواي هذه ليس تلك الكتب التاريخيَّة؛ بل هي روايات الصحاح والأسانيد.
وإنَّ مقتضى قواعد البحث العلمي أن تكون ممَّن يتبع الدليل لا ممَّن يُطَوِّع الدليل كما يشاء، أو يقبل منه ما يوافق هواه ويرفض ما يخالفه.
والمصادر موجودة بين يديك، وليس عليك إلا الخلوة بنفسك متأملًا في الروايات متصفحاً لكتب التأريخ، ولا تقل: «إنَّ تلك الكتب كلّها أساطير»، فتكذب كلّ ما لا يوافق رأيك.
وياترى: هل يبقى لك كتاب تعتمد عليه؛ لو رددتَ كلّ ما خالف هواك؟
ص: 35
الإشارة الثانية: وأمَّا ما تعرضتَ له من أنَّ ذمّهم يسقط مباشرة وبلا تأنٍ، وذلك في مقابل مدح رئيس الدولة أو القوم لهم، وفي مقابل كلّ من يذمّهم.
فأين قد صحَّ عن النبيّ الأكرم أنَّه مدحهم عامّة ومطلقاً؟
وأيضاً لو صدر عنه مدح لبعض الصحابة، حتى ما كان بعنوان الصحابة فلابدَّ من صرفه إلى خصوص الذين اتبعوه بإحسان وأحسنوا الصحبة، وبذلوا أنفسهم دونه، لا كلّ من تحقق أنَّه صحب النبيّ بالمعنى الذي ذكرته أوَّل الرسالة، وهو من آمن بالنبيّ وصحبه ولو لفترة من الزمن ومات على ذلك.
فما العبرة فيمن آمن بالنبيّ وصحبه مدَّة حياته أو مدَّة حياة النبي صلى الله عليه و آله لا حبَّاً في الإسلام؛ وإنَّما لسلطان النبي صلى الله عليه و آله أو لوجاهة بين الناس، وما أكثر أغراض الناس واختلاف أهدافهم وغاياتهم في التقرب من الرؤساء، هذا أوّلًا.
وثانياً: لو فرضنا صحَّة مدح النبيّ للصحابة؛ فقد ثبت عندنا ورود ذمٍّ لبعضهم أو لبعض الصفات الموجودة فيهم، و ثبت عندنا من روايات بطريق صحيح غضب النبي على بعضهم، وعدم رضاه عنهم أو تبرؤه مما عملوا، و ثبت من بعض الروايات أنَّه قد صدر منهم بعد وفاته صلى الله عليه و آله ما لا يُرضيه لو كان حيّاً بين أظهرهم.
فطريق الجمع بين الأمرين أن نخصّص المدح الوارد في الصحابة بمن لم يصدر منه ما يشين الصحبة ويباعدها عنه.
ص: 36
لا أن نردَّ كلّ تلك الروايات الواردة في حقِّ بعضهم ممَّا ينافي روايات المدح.
الإشارة الثالثة: لو دار ثبوت العيب بين ثبوته للمعلِّم أو للتلاميذ أو للناقد لهم، فهنا نُعمِل القواعد العلميَّة المستندة للعقل السليم.
فنرى أنَّ المعلِّم؛ فيما لو كان معصوماً وقد بذل جهده في التعليم والتربية والتزكية لهم؛ فهو خارج عن عنوان ثبوت العيب فيه.
وأمَّا التلاميذ: فهل تعلَّموا كلَّ ما علَّمهم؟ وهل وعوا وعملوا بكل ما تعلَّموا؟ أم تخلَّف العالم منهم عن العمل؟.
إنَّ هذا ما تهدينا إليه بعض الآيات والروايات الواردة في الصحاح، حيث تثبت عدم انصياعهم لكل ما قاله معلِّمهم وقائدهم.
1- فاقرأ معي هذه الآية: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَاقَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِم وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا (1) 48 فقد نزلت في بعضهم يوم غدير خمٍّ لما رأوا النبي صلى الله عليه و آله رافعاً بيد عليّ قالوا: «انظروا إلى عينيه كأنَّهما عينا مجنون»، وقيل هو الجُلَاس بن عبيد، أو سويد، ولكنَّه تاب بعد ذلك عمَّا قال (2) 49.
ص: 37
2- واقرأ معي أيضاً قوله تعالى: وَيَقُولُ الذِّينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذَا أُنْزِلَت سُورَةٌ مُحكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الذِّينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِن المَوْتِ فَأَوْلَى لَهُم (1) 50 فالذين في قلوبهم مرض هم من الذين آمنوا، ومن الصحابة، لأنَّ المفروض أنَّهم آمنوا وهم مع النبي صلى الله عليه و آله.
ثمَّ أَكْمِلْ تلاوة السورة معي، وَقِفْ عند قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الذِّينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم* وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنكَهُم فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمهُم وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْنِ القَوْلِ.. (2) 51.
واقرأ قوله تعالى: مَالَكُم إذَا قِيل لَكُم انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُم إلى الأَرْض (3) 52 فمن الذي تثاقل عن النفور للجهاد غير الصحابة من الكفَّار والمشركين؟ هل هم المؤمنون أم غيرهم؟
3- واقرأ معي قوله تعالى: وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوَاً انْفَضُوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمَاً (4) 53 ففي البخاري (5) 54: أقبلت عيرٌ يوم
ص: 38
الجمعة ونحن مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلًا فأنزل اللَّه: وإذا رأوا تجارةً... (1) 55.
وأمَّا في الروايات: ففيها الكثير ممَّا يُثبت عدم انصياعهم لأوامره صلى الله عليه و آله.
فمنها: ما ذكره البخاري في صحيحه من أنَّه لمَّا تمَّ صلح الحديبيَّة وهمَّ الرسول بالإحلال بالهدي أمر أصحابه بالذبح؛ فلم يقم منهم أحدٌ؛ فأمرهم ثانية وثالثة، فلم يستجيبوا، فدخل إلى خيمة أم سلمة، واشتكى إليها أصحابه، فقالت له: لا عليك منهم اخرج واذبح الهدي، فلماخرج وذبح هديه قاموا متثاقلين الواحد والإثنين» (2) 56.
بل فيها: «جاء عمر للنبيّ وقال له: أو لستَ نبيّ اللَّه حقّاً؟! قال: بلى.
ص: 39
قال: أو لسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: إذن؛ فلم نعطي الدنيَّة في ديننا؟
قال: إنّي رسول اللَّه، ولستُ أعصيه وهوناصري، أو قلتُ لك تحجّ البيتَ العامَ؟
قال: لا، فرجع ولقي أبابكر فقال له ما قال للنبيّ فأجابه بما أجابه، فرجع عنهما، وهو يقول: فعملتُ لذلك أعمالًا» (1) 57.
ومنها: في حجَّة الوداع لمَّا أمرهم بالإحلال ثمَّ الإحرام للحجّ جاءه بعضهم، وقال: يارسول اللَّه ننطلق إلى منى ورؤوسنا تقطر..!؟» (2) 58.
ومنها: ما في صحيح مسلم (3) 59 من ظهور ضيق صدور الصحابة من أوامر النبيّ صلى الله عليه و آله: أهللنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحجّ فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نحلَّ ونجعلها عمرةً، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا....
ص: 40
وفي لفظ الطبراني في المعجم الكبير (1) 60: حتى إذا كان يوم التروية أمرنا فأهللنا بالحجّ، فقال بعضنا لبعض: خرجنا من أرضنا حتّى إذا لم يكن بيننا وبين منى إلّاأربع نخرج ومذاكيرنا تقطر منيَّاً!؟.
فبلغ ذلك رسول اللَّه فقال: أتتهموني وأنا أمين أهل السماء وأهل الأرض!؟.
ومنها: اعتراضهم وطعنهم في تأمير النبيّ صلى الله عليه و آله أسامة بن زيد على الجيش، وفيه: فطعن بعض الناس في إمرته، فقام رسول اللَّه فقال: «إنّكم تطعنون في إمرته كما كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل..» (2) 61 ومنها: ما صدر من عمر من منع النبيّ صلى الله عليه و آله وهو في أيامه الأخيرة أن يكتب كتاباً للهداية لايضلُّ الناس بعده أبداً، فقال عمر: إنَّ النبيّ قد غلبه الوجع وعندنا كتاب اللَّه، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع..» (3) 62.
وهذا غيض من فيض، وإنَّما ذكرنا هذه الموارد دفعاً لتغرير الكاتب بعدم مخالفتهم لتعاليم النبيّ صلى الله عليه و آله كأستاذٍ لهم ومعلِّم.
وإلا، فهي واضحة للعيان ولا تحتاج إلى برهان، وقانا اللَّه
ص: 41
سوء المنقلب.
وأما في رجوع العيب للطاعن وأنَّه يرجع طعنه فيهم للطعن في المعلِّم.
فهذا كلام مرفوض جملةً وتفصيلًا، فإنَّ الناقد البصير؛ فيما لو استند إلى مقدمات علميَّة تامّة واعتمد على أدلّة معتبرة عند الخصم، فنقده يكون نقداً قد صدر من أهله ووقع في محلّه، ولا يلزم من ذلك رجوع الطعن للمعلِّم، وذلك لفرض التفكيك بين المعلِّم وما جهد من تعليمهم، وبين التلاميذ الذي لم يحسنوا الوفاء للمعلّم...!!
هذا مع اعتبار حسن الصحبة والاحترام والتقدير لمن وَفَى منهم، وثبت حسن صحبته له صلى الله عليه و آله حتى انتقل إلى جوار ربّه.
الإشارة الرابعة: تفاخره بما فعل من ادَّعى لهم حسن الصحبة بأنَّهم ممَّن وقفوا مع الرسول الأكرم في حروبه حتى بلغت القلوب الحناجر، ولم يتخلّوا عنه، يلحظون مجالسه وأنفاسه نفساً بنفس، ويتدافعون على فاضل ماء وضوئه.. إلى آخر كلامه.
ولقد قرب- هذا الكاتب- من نقل الحقيقة! فالحمد للَّه على الصحوة بعد الغفوة، ولنسأل الكاتب: في أيّة معركة هجم الكفارُ على المسلمين فثبتوا غير جماعة مخصوصة؟ أفي بدر لمَّا حملوا على النبيّ حينها نادى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعلي عليه السلام ليدفع المقاتِلَةَ من الكفار عنه؟ أم في غيرها؟ فارجع للنصوص تجد أنَّها تبين لك الواقع.
ص: 42
وهل سمعت في معركة من معارك النبيّ بشجاعة أو بسالة من غير أفراد منهم؟ وهل كانوا كلهم معروفين بالمبارزة والقتال؟؟
وهاك مثلًا من معركة أُحُد: لمَّا نزل الرماة عن جبل أُحُد ظنّاً بالنصر، وانتهاء المعركة، ومسارعة للغنائم، فَكَرَّ عليهم الكفّار، وفرَّ المسلمون، فمن بقي مع النبيّ يقيه بنفسه وبسيفه؟؟
وأينك عن غزوة حنين التي تحدّث عنها القرآن إذ أعجبتهم كثرتهم، ولمَّا باغتهم المشركون فرُّوا جميعاً، والعبّاس ينادي خلفهم: «ياأهل بيعة الشجرة، يا أهل سورة البقرة»!!.
وهكذا في غزوة الأحزاب: من الذي برز لمقابلة عمرو بن عبد ودّ؛ ذاك البطل الذي كان يعدّ بألف فارس؟
لولا برز له أمير المؤمنين عليه السلام وتنازلا القتال، وما انجلت الغبرة إلا وعلي عليه السلام قد رقى صدر عمرو واحتزّ رأسه، فكبَّر المسلمون وانهزم المشركون (1) 63.
ولقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يومذاك: «إنَّ ضربة عليّ لعمرو أفضل من عمل الثقلين أو- عبادة الثقلين-» (2) 64.
ص: 43
وكذا في خيبر؛ فقد خرج أولًا أبوبكر ولكنَّه سرعان ما رجع يُجبِّن أصحابه، ثمَّ أعقبه عمر بن الخطاب ولم يزد على نظيره بأن رجع يُجَبِّن أصحابه وأصحابه يُجبِّنُونه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
«لأعطينَّ الراية غداً رجلًا يحبّ اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله كرَّاراً غير فرَّار» (1) 65.
ولا يخفى ما في تلك الكلمات من تعريض بمن عداه ممَّن فرَّ أو هو كثير الفرار عن الأبطال (2) 66 وكان ما أراد اللَّه ورسوله من الفتح المبين لهم على يدي أميرالمؤمنين عليه السلام.
وأمَّا مداومتهم على مجالس الرسول صلى الله عليه و آله وكثرة محادثته:
فهذا ليس لكلِّهم وجميعهم، وإلّا فهو ممَّا يكذّبه التاريخ وتكذّبه الكثير من أحوالهم، ففيهم مَن كان لا يفارق المسجد لأجل لقمة طعام لعلَّها تصل بيد الرسول صلى الله عليه و آله فيلقمها إيّاه (3) 67.
ص: 44
ومنهم من شغله الصفق في الأسواق (1) 68، وقد وردت إلى ذلك الإشارة في الآية القرآنيَّة: وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوَاً انفَضُوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمَاً (2) 69.
وأمَّا ما ذكره من أنَّه صلى الله عليه و آله لم يألُ جهداً في تعليمهم كلّ خيرٍ ونصحهم في الابتعاد عن كلّ شرٍّ وتحذيرهم من سوء عاقبته.
فهذا أمر مسلَّمٌ، ولكنَّ السؤال هو: هل أنَّهم كلَّهم اتبعوا نصيحته صلى الله عليه و آله أم لا؟ وهل حذروا مما حذَّرهم منه، أم لا؟
الشواهد والدلائل تقول: «لا، لا»، سوى البعض! وعلى المدّعي خلاف ذلك أن يأتي بالبيّنة على ذلك.
وأمَّا الاستدلال لإثبات ذلك بنفس صدور النصح والتحذير من النبيّ!
فهذا ضحك على الذقون لايرتضيه ذو مسكة من عقل سليم.
الإشارة الخامسة: وأمَّا ما استشهد به من مقاتلَة أمير المؤمنين الذين انحرفوا عنه وحاربوه فهو لا يخلو من أحد أمرين:
فإمَّا أن يكون كلامه هذا على وزان كلامه في صحابة النبي صلى الله عليه و آله مع النبي صلى الله عليه و آله، والكلام فيه هو الكلام، لضرورة التفكيك بين
ص: 45
المربي والمعلّم وبين التلاميذ، فهو توسيع لدائرة الإشكال لا حلٌّ له.
وإمَّا أن يكون كلامه فيه أجنبياً، ونلتزم معه بعدم تحقق بيعة منهم له، ولذا بيَّن صلوات اللَّه عليه في بعض كلماته حقيقة بيعة بعضهم أعني أول من بايع وهم- الزبير وطلحة- بل بيَّنها لهم مباشرة، وأخبرهم أنَّهم أول من ينقض تلك البيعة.
وأمَّا خروج مَنْ خرج عليه، فقد جرَّأهم على ذلك أمثال عمرو بن العاص، ومروان طريد رسول اللَّه هو ووالده الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان لمَّا أن امتنع عن تسليم الأمر لأمير المؤمنين عليه السلام.
وأنتم تعترفون في أمَّهات كتبكم بأنَّهم بغاةٌ على الإمام، والباغي على إمام زمانه كافر، هذا بحكمكم أنتم، كما صرَّح به علماؤكم (1) 70 وغيره، و أبوموسى الأشعري والذي قَبِل أن يحكم
ص: 46
على إمامه، بل سوَّل له شيطانه أن يتصور تمكنه من خلع الإمامة التي كانت ثابتةً لأمير المؤمنين عليه السلام فخلعها غافلًا أو عامداً متجرأً، فتمَّت الخدعة والمكيدة على خلع علي عليه السلام.
وما علموا أنَّها إمامة إلهيَّة لا يمكن خلعها من قبل أنفسهم، وما كان خواصُّ عليّ إلا قلَّة قليلة، ولذا قال في أكثر من مقام: «ما ترك لي الحقّ من صديق».
وقبل كلّ ذلك: إنَّ بيعة أمير المؤمنين عليه السلام كانت من اللَّه عزَّ وجلَّ ومن رسوله صلى الله عليه و آله ولم تكن منعقدة من الناس، بل الجلُّ منهم إن لم يكن الكلّ قد بايعوه في الغدير حتى قام الخليفة الثاني مُسَلِّماً عليه بأمر النبي صلى الله عليه و آله وهو يقول له: «بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» (1) 71.
فالعجب كيف صحَّت لهم بيعة مَن تقدم عليه مع اشتغال ذمتهم وصفق أيديهم ببيعتهم لعلي عليه السلام قبل ذلك، وها أنتم تروون:
«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما» (2) 72 فحَقَّ القتلُ على كلّ من تقدّم على أمير المؤمنين عليه السلام بالبيعة لنفسه.
إلا أن تردُّوا هذه الرواية وأمثالها، وهذا ما لا نرتضيه لكم من
ص: 47
ردّها أو استحقاق القتل لهم، كما لا ترتضونه أنتم.
النقطة الرابعة: الطعن في الصحابة.
لقد حرص المدّعون بأنَّهم أهل السنَّة على الالتزام بعدالة الصحابة جميعاً، ولم يُعلَم لهم وجه عقلي (1) 73 أو نقلي أو عقلائي
ص: 48
يوجب ذلك، بل حتى الصحابة أنفسهم لم يكن عملهم كذلك (1) 74.
إذ أنَّ كلّ ما ورد من آيات أو روايات هو لمدح بعض الصحابة، وعلى فعل خاص لا مطلقاً، هذا مع تسليم إرادة المدح منها، وإلا فالبعض منها إخبار عن واقعة خاصة وقعت والحكم المتعلق بها.
وأهمّ دليل ذكره هذا الكاتب من العقل على ذلك: هو لزوم فتح باب الطعن على غير الصحابة من باب أولى، فما الفرق بين الصحابة وغيرهم ما لم تثبت لهم العصمة؟
ومَن هو هذا الغير الذي تقصده؟ وتخاف أن يَطَلِّع على الطعن عليه أعداء الإسلام؟
ثمَّ ما هو الدليل على المنع عن الطعن في مَن ثبت فيه ذلك، في ما لو كانت مصلحة الإسلام والحفاظ على السنَّة النبويَّة تقتضي الطعن والدفاع عن الحقّ؟
وإلا، فامنع علماءكم عن البحث في علم الرجال، وهو علم أو فنّ له موازينه الخاصة، ولكنَّ لبَّه وواقعه الجرح والتعديل.
ص: 49
وهل التجريح إلا أن تقول: فلان مطعون فيه، وفلان كذاب، وفلان مدلس (1) 75 وفلان كان يشرب الخمر، و.. و...
ولو كان هذا العلم مجرد تعديل فقط لم يصح تسميته علماً (2) 76.
وعلى هذا فالصحابة كغيرهم من الناس الذين يمكن أن توضع أسماؤهم وأفعالهم على مائدة التشريح فيُرَى: هل كان ثقة متقياً مطيعاً للَّه ولرسوله، أم لا؟
والصحبة- لو قلنا بنفعها- لما تعدّى ذلك شرف اللقاء بالرسول الأكرم، ولكنَّ الأمر من زاوية أخرى هو عليهم أشدّ، لأنَّ من رأى النبي وسمع أوامره ونواهيه ولم يمتثلها كانت عقوبته أشدّ ممَّن لم يره و لم يسمع منه وإنَّما سمع من الرواة والأخبار ذلك،
ص: 50
وهذا مقتضى اختلاف الرتبة بين الصحابي وغيره.
ويكفينا في إمكان تطرُّق الطعن لبعض من ادُّعيت له الصحبة ما ذكره البخاري في صحيحه من حديث الحوض: «يقدم عليَّ جماعةٌ من أصحابي يوم القيامة- وأنا على الحوض- فلمَّا قربوا مني حيل بيني وبينهم؛ فأقول: ياربِّ أصيحابي أصيحابي؟ فيأتي النداء: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1) 77 وفي نص آخر: «فيحلؤون دوني فأقول: ياربِّ أصحابي؟
فيناديني مَلَكٌ: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ لقد رجعوا القهقرى..» (2) 78.
فهذا الكلام من لسان الرسول يوجب تحقق معرضيَّة الصحابة للطعن، خاصة من رجع منهم القهقرى بعد وفاته صلى الله عليه و آله.
وأعظمها هذه الرواية، وهي في ما بعد معركة أحد، فقد روى الإمام مالك أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبوبكرالصديق: ألسنا يارسول اللَّه إخوانهم؟
أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا!؟.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بلى، ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي؟!!
ص: 51
فبكى أبوبكر ثمَّ بكى، ثمَّ قال: أئِنَّا لكائنون بعدك؟» (1) 79.
وهاك بعض أسماء الصحابة الذين ثبت أنَّهم لم يحسنوا الصحبة بدلالة كلام الرسول في حقهم أو مخالفتهم الظاهرة لأوامره صلى الله عليه و آله ولو بعد وفاته صلى الله عليه و آله:
1- الجد بن قيس الأنصاري، الذي قال النبي في حقّه: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» (2) 80.
2- الحرقوص بن زهير السعدي، ممَّن شهد بيعة الرضوان ثمَّ صار رأس الخوارج، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه و آله: اعدلْ، يا محمّد (3) 81.
3- محلم بن جثامة، قال فيه النبي صلى الله عليه و آله: «اللهم لاتغفر لمحلم بن جثامة».
لأنَّه قتل صحابياً متعمداً (4) 82 فهو الذي قتل عامر بن الأضبط، ولمَّا مات محلم لفظته الأرض ثلاثاً، فجُعِل على سفح جبل ورُجِم بالحجارة، فلما أُخبِر النبي صلى الله عليه و آله بذلك قال: هي دعائي عليه.
4- عبد اللَّه بن خطل، كان صحابياً ثمَّ ارتدّ، ولحق بمكَّة، وقتل
ص: 52
يوم فتحها (1) 83 وهو ممَّن أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بقتله.
5- المغيرة بن شعبة، وحاله أوضح من أن يوضّح.
6- سمرة بن جندب، أساء السيرة بعد النبيّ، وكان يبيع الخمر ويقتل الأبرياء، هو الذي وضع بعض الأحاديث في ذمّ عليّ طلباً لرضا معاوية و.. و...
7- عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب، شرب الخمر أكثر من مرَّة فقتله أبوه حدَّاً وتعزيراً بعد أن حدَّه عمرو بن العاص في مصر (2) 84.
والروايات في هذا مختلفة، فقيل بأنَّ كلا ولديه قد حُدَّا؛ أحدهما حدّه للزنا والآخر حدَّه لشرب الخمر، أي عبد الرحمن المكنّى بأبي شحمة، وعبيد اللَّه، وإن كانت بعض الروايات تفيد اتحادهما، وأنَّ الحدّ ليس إلا واحداً.
8- الوليد بن عقبة: الفاسق بنصّ آية النبأ: إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا.
وغيرهم من الصحابة الذين خانوا الصحبة وتنكّروا لها بعد النبيّ صلى الله عليه و آله أو في حياته.
9- قدامة بن مظعون: وقد شرب الخمر في زمان عمر وجلده،
ص: 53
فغاضبه ثمَّ كلمه واستغفر له (1) 85 بل قال أبو أيّوب: لم يُحدَّ أحدٌ من أهل بدر في الخمر إلا قدامة ابن مظعون (2) 86.
ولكنَّ العجب لا ينقضي من مثل الحاكم في المستدرك (3) 87 حيث جعل من مناقب قدامة هذا أن نصَّبه الخليفة عمر بن الخطاب والياً من قِبَلِه على البحرين (4) 88 وقد نسي الحاكم أن يعدّ من مناقبه شربه للخمر فيها، فلم يذكره في ترجمته!!
10- أبو محجن الثقفي: ممَّن شرب الخمر مراراً، بل لم يكن ينفكّ عن ذلك حتى نفاه عمر إلى جزيرة، وجعل عليه رجلًا حارساً ففرَّ منه، وخرج إلى سعد حيث كان زمن معركة القادسيَّة، وذكر ابن عبد البرّ أنَّه كان منهمكاً في الشراب لايكاد يقلع عنه، ولايردعه رادع ولا لوم لائم (5) 89 وذكر عن قبيصة بن
معجم البلدان: 2/ 263
ص: 54
ذؤيب أنَّ عمر جلده في الخمر: ثمان مرّات (1) 90 وفي رواية أخرى: أربع مرَّات (2) 91 وفي أخرى: سبع (3) 92.
تلك عشرة كاملة، وإن كان في زوايا الكتب والروايات الكثير منها.
وأمَّا الآيات التي ادّعى الكاتب أنَّها نزلت في فضلهم، فليدلنا عليها!!
إذ ليس إلا آية بيعة الرضوان تحت الشجرة، وهذه- كما يقول العلماء-: قضية خارجيَّة مختصّة بجماعة خاصَّة، وهم خصوص مَن بايع تحت الشجرة، فلا تشمل غيرهم.
مع أنَّ آخرها يصرِّح بالتهديد لمن كفر بعد ذلك.
وفي آية أخرى يصرّح بسوء العاقبة لمن نكث بعد ذلك.
وفي ذلك كلّه إشعار بتوقّع النكث والكفر من بعضهم بعد ذلك.
بل التصريح بوقوعه متحققٌ بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله من قوله تعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (4) 93.
ص: 55
فإن منعت دلالة هذه الآيات والروايات على مدّعانا، فالمنع عن مدّعاك ممَّا ذكرتَ من آيات وروايات أولى وأولى.
وكذا آية الوعد: وَعَدَ اللَّهُ الذِّينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استَخْلَفَ الذِّينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُم دِينَه الذِّي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَر بَعْدَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون (1) 94.
وهذه الآية ظاهرة في الوعد من اللَّه للمؤمنين به حقاً بأن يجعلهم المستخلفين في الأرض وأن يعطيهم الأمان بشرط أن يتوجّهوا بالعبادة إلى اللَّه وأن لايشركوا به شيئاً؛ وإلّا فمن يكفر به فهو في عداد الفاسقين المساوين للكفَّار في العقاب، على ما يستفاد من آيات أخر، بل لا يبعد مساواة الفسق للكفر في نفسه كما يمكن استظهاره من بعض الآيات، وللعلماء وأهل التفسير في هذه الآية آراء متعدّدة:
فقد قال الفخر الرازي- تبعاً للزمخشري- في تفسيره (2) 95 بأنَّها دالّة على صحّة خلافة الخلفاء الأربعة فإنَّهم هم الذي آمنوا ولم
ص: 56
يبدّلوا ولم يغيّروا.
ووافقه البيضاوي، فقد تحقّق مصداقه المنحصر فيهم، وقالوا:
ما اجتمع الموعود والموعود به إلّالهم.
وقال آخرون: هي دالَّة على الاستخلاف للمسلمين جميعاً بعد نصرهم على الكفار في الجزيرة، أو بعد فتح مكَّة، فهي مساوقة ومرادفة لقوله تعالى: اليَوْمَ يَئِسَ الذينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُم فَلَا تَخْشَوهُم وَاخْشَونِ.. (1) 96.
ولقوله تعالى: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي... (2) 97.
وقالت طائفة ثالثة بأنَّ الموعودين بهذا هم الأئمة عليهم السلام وأنَّ موعدهم معلوم عند اللَّه مخفيّ علينا، وهو المرويّ عن أئمتنا عليهم السلام، والذي ذكره الشيخ الطبرسي في مجمع البيان.
وعلى هذه التفاسير المختلفة لا تتمّ دعواهم على إرادة الخلفاء الأربعة، أضف إلى ذلك عدم دعواهم النصّ على استخلافهم وخلافتهم، بل هم بين من ادّعي نصبه بالشورى (3) 98 وبين من نصب بالتعيين من سابقه (4) 99 وبين من جعلها شورى بين
ص: 57
ستّة (1) 100 وأمر بحبسهم في دار إلى ثلاثة أيّام، جاعلًا الأمر بيد عبدالرحمن بن عوف.
ولمَّا عوتب الخليفة الثاني على ذلك قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي- يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي- يعني رسول اللَّه بدعواه أنَّه لم يستخلف-.
واعتقدوا أنَّ في ذلك فضيلة له من التوجّه للتخيير بين الأمرين.
ولكنَّ الحقّ المبين هو أنَّه بلا دليل ولا مرشد، وليست إلّا السياسة المدبَّرة والمبيَّتة منه لمن يليه، وأيّة شورى تلك التي يحبس فيها المرشَّحُون وهم المرشِّحُون أنفسهم؟ وهل فيهم خير أن لو انتخبوا مَن لم يرتضه عبد الرحمن أن يضرب عنق الممتنع؟
وبأيّ وجه شرعيّ يقتل؟ فهو إمَّا خليفة للمسلمين، وإمَّا مقتول، وإمَّا موافق للآخر، ولو كان ذا باطل؟
وأمَّا بقيَّة الآيات: ففيها أمرٌ لهم باتباع النبي صلى الله عليه و آله واستماع أوامره وعدم التقدّم عليه، وإعزازه والرجوع له في الحكم في ما لو شجر بينهم نزاع أو خصومة، وأمثال هذه الموارد.
وليس فيها من مدح لهم تلميحاً فضلًا عن التصريح به.
ص: 58
ولعلَّ أعمَّ ما يتصور دلالته على دعوى تلك المنزلة لهم هي من قِبَل قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالذِّينَ مَعَهُ... (1) 101 فتستفيد ذلك من المعيَّة الموجودة فيها، فنسأل: أيّة معيَّة هي المقصودة في الآية؟ لا شكَّ أنَّ المعيَّة البدنيَّة ليست ذات أثر حتى تقصد، فكم من رجل بدنه معك وقلبه عليك، إذن فالمقصود منها المعيَّة القلبيَّة والعقليَّة، ولذا لم يكتف القرآن بهذا المعنى من المعيَّة بل صرَّح بما ذكرنا في آخر الآية فقال: وَعَدَ اللَّهُ الذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَ أَجْرَاً عَظِيمَاً (2) 102.
ولا يخفى الوجه في ذكر كلمة منهم فإنَّه علاوة على عدم إرادة المعيَّة الجسديَّة- وهي عمدة أدلتكم في تحقيق الصحبة بالرؤية البصريَّة- قد نصَّ على خصوص المؤمنين منهم والذين يعملون الصالحات منهم، لا مطلق من كان معه، وهل يحتاج عاقل لأكثر من هذا البيان لفهم التخصيص منها!!؟.
وأمَّا الروايات التي يدّعي صدورها في مدحهم؛ فلا تزيد على عدد الأصابع- هذا إذا صحَّ صدورها- حيث قد ناقش في سندها
ص: 59
الكثير من أعلامكم (1) 103.
وبعد كلِّ هذا؛ فمن الواضح أنَّ الفتوحات المنتسبة إليهم يحتاج الأمر فيها إلى إثبات عدالتهم قبلها وبعدها، إذ ليس من شرائط
ص: 60
الفاتح لبلدٍ أن يكون عدلًا متقيَّاً، إذ قد روي: أنَّ اللَّه ينصر هذا الدين ولو بالرجل الفاسق أو الكافر (1) 104؟!
وما ذكره من سلسلة اللوازم على الطعن في الصحابة؛ من لزوم الجرأة على القرآن والطعن فيه أو لزوم الطعن في السنَّة لأنَّ ذلك طعن في حَمَلَتِها، وتشويه أمجاد الإسلام وحضارته.
فكلّ تلك لوازم فاسدة، بل هي غير لازمة للكشف عن فساد بعضهم، أو كذب دعواه الصحبة له، أو دعواهم الصحبة له صلى الله عليه و آله قط.
فإنَّ صدور طعن في بعض الصحابة ليس مانعاً عن الرواية عن الصحابة الآخرين الذين لم يرد فيهم طعن، والفرض عدم توقف الوثوق بالسنَّة أو وصول القرآن وتواتره على أولئك الأشخاص المطعون فيهم.
أنَّ الذي يبدو لنا أنَّ هذا الكاتب ليس له غرض أساسي في توثيق وتعديل كل الصحابة، ولكنَّه لمَّا لم يجد طريقاً أو وجهاً يستطيع به توثيق الشيخين وبعض من تابعهم ومالأهم، اضطرَّ للقول بعدالة كل الصحابة، فوقع في مشكلة أكبر منها.
فارجع أخي القارى ء إلى رشدك وابحث عن الحقيقة، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وستسأل في قبرك ويوم القيامة عن معتقداتك، بل ستسأل حتى عن الأشخاص
ص: 61
الماضين والمعاصرين لك، إذا كان توليهم ديناً يدان به، فهي ء جواباً يصنع لك طريقاً من قبرك للجنَّة، فإنَّك ستكون وحدك في قبرك، ولن ينفعك فلان وفلان حباً ولا دفاعاً، بل النافع لك هو اتباعك للحق، والحقُّ بتصريح النبيّ صلى الله عليه و آله عند عليّ: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ» (1) 105.
فانظر لحالك إن لم تكن معه، فمن الآن فسارع والتحق بركب علي عليه السلام قبل أن يعاجلك الفناء، وليس بعد ذلك إلا الحساب، وحينئذٍ لسان حال المتخلف عن ركب عليّ: رَبِّ ارجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً (2) 106 النقطة الرابعة (3) 107: غزوات النبي صلى الله عليه و آله:
لقد استند في الأدلة التي عرضها من آيات وروايات إلى ما ورد من مدح للصحابة في ما بذلوه في الغزوات مع النبي صلى الله عليه و آله من نفس ونفيس من مال وأولاد وعتاد، وهذا المدح من القرآن لهم
ص: 62
قد خلَّدهم، وسدَّ طرق الطعن عليهم أو تخوينِهم في أدب التلمذة والتعلّم من النبي صلى الله عليه و آله.
ولنأخذ جولة سريعة حول تلك الآيات التي ادَّعى توافرها على هذا المعنى.
فهنا مواقف:
ففي مرحلة التهيؤ لها كان المسلمون من جهة قد أخذتهم هيبة قريش وقوتها، وكثرة عدَّتِها وعتادها، ومن جهة أخرى: لابدَّ لهم من إثبات صحَّة موقفهم وتمسكهم بالدين الجديد.
فمن غلب عليه الجانب الأول ظهرت منه علائم النفاق والضعف والتخاذل.
وأمَّا من غلب عليه الجانب الثاني فقد أظهر البسالة والثبات.
فمثل المقداد الذي قال للنبي صلى الله عليه و آله: «إنَّا لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
، ولكن نقول لك: تقدما وقاتلا ونحن معكم» (1) 108...
فاقرأ ما نزل من آيات في معركة بدر الكبرى؛ فقد كان جلُّ سورة الأنفال في معركة بدر، وتأمل في مضمون ما سنتلو عليك من آيات عبر مقاطع:
ص: 63
قال تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإنَّ فَرِيقَاً مِن المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُم كَأنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى المَوْتِ وَهُم يَنْظُرُونَ* وَإذْ يَعِدُكُم اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم وَتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم وَيُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ* لِيُحقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجرِمُونَ* الأنفال 5- 8.
ففي هذه الآيات صراحة ما بعدها صراحة في أنَّ قسماً من الصحابة كان كارهاً للدخول في حرب مع قريش، ومن المُبرِّرات ما ذكرناه سابقاً، ومنها ما هو معروف من أنَّهم لا رغبة لهم في محاربة قومهم وإن كانوا كفاراً، ولذا عبَّرت الآية بقوله يُجَادِلُونَكَ، والمجادلة وقعت حول الحق، وهل الصحابة المتبعون للنبي في كل أمورهم يجادلون في الحق، أيها الكاتب المحترم؟؟
ومَنْ هم الكارهون: هل هم فريق من الكفار أم فريق من المؤمنين؟؟.
ويناسب هنا أن نذكر ما يؤيد كراهة البعض الخروج للقتال، فقد أخرج مسلم والحاكم وابن كثير والبيهقي حين أخبرهم الرسول بقدوم قافلة أبي سفيان فتكلَّم أبوبكر فأعرض صلى الله عليه و آله عنه،
ص: 64
وتكلم عمر فأعرض صلى الله عليه و آله عنه، ثمَّ قام سعد بن معاذ فتكلم، فسُرَّ صلى الله عليه و آله بقول سعد ونشَّطه (1) 109» ولكنَّ مثل صاحب تفسير الكشاف (2) 110 ممَّن خان الأمانة فقال: «فتكلم أبوبكر فأحسن وتكلم عمر فأحسن..» ومحا بتزويره إعراض النبي عنهما (3) 111.
وأمَّا الخليفة الثالث فلمَّا ساءت علاقته مع المصاهر له والمُنَصِّب له خليفةً في شورى الستَّة عبدالرحمن بن عوف، لقيه الوليد فسأله عن عدم حضوره مجلس الخليفة، فأجابه: أن أبلغ عني الخليفة أنِّي لم أغب عن بدر، ولم أفرَّ يوم عينين «أحد» (4) 112.
ص: 65
وفيه تعريض بغيابه عن بدر، والذي عبَّر عنه البعض بالفرار، وذلك لخروج كل المسلمين فيها أو أغلبهم، إذ كانت هي المعركة الفاصلة، وتعريض بفراره في معركة أحد كما سيأتي.
هذا كله مع سبق وعد اللَّه لهم إمَّا اغتنام القافلة التي خرجوا لها- عِيْر قريش- وإمَّا النصر، ومع كل هذا لم تكن لهم رغبة في ذلك.
فإن لم يكن ما صدر منهم حاكياً لامتناعٍ؛ فلا أقل من الشك في وعد اللَّه لهم، فماذا تقول أيها الشيخ الجليل؟
ولمَ غضضت النظر عن مثل هذه الآية ولم تذكرها؟؟
قوله تعالى: «وَاعلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُم مِن شْي ءٍ فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنِ السَّبِيلِ إنْ كُنتُم آمَنْتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَي ء قَدِيرٌ* إذْ أَنتُم بِالعدْوَةِ الدُّنيَا وَهُم بِالعدْوَةِ القُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُم وَلَوْ تَوَاعَدْتُم لْاختَلَفتُم فِي المِيعَادِ وَلكِن لِيَقْضِي اللَّهُ أَمْرَاً كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلَكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وَإنَّ اللَّه لَسَمِيعْ عَلِيمٌ* إذْ يُرِيكَهُم اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُم كَثِيراً لَفَشِلتِم وَلَتَنَازَعْتُم فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّه سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَات الصُّدُور
ص: 66
* وَإذْ يُرِيكَهُم إذْ التَقَيْتُم فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُم فِي أَعْيُنِهم لِيَقضِي اللَّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا وَإلَى اللَّهِ تَرْجِعُ الأُمُورُ*» الأنفال 41- 44.
فهذه الآيات تبين وجوب الخمس في ما ظفر به المسلمون من غنائم، ولكنَّها وإن كانت نزلت في غنائم معركة بدر، ولكنَّ خصوص المورد لا يخصص الوارد، ولذا فهي تشمل كل ما يغنمه الإنسان من شي ء، بقرينة قوله تعالى: «مِنْ شي ءٍ» والغنيمة مطلق الفائدة.
ثمَّ تبين الآيات موقع المسلمين بالنسبة للمشركين، وقرب ركب قريش منهم، كما يبين أثر الرؤيا التي أراه اللَّه إياها في نفوس المسلمين حيث قلَّلهم في أعين المسلمين، وكثَّر المسلمين في أعينهم، ولو أراهم للمسلمين على ما هم عليه في الواقع لتنازعوا في الإقدام على الخروج إليهم ومحاربتهم، وبالطبع نتيجة التنازع الفشل، والخلاصة بيان امتنان اللَّه عزَّ وجلَّ على المسلمين بأن سلَّمهم من ذاك المكروه، رغم أنَّهم كانوا مهيئين للتنازع والفشل لولا أنَّ اللَّه سلَّم ...
قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُل الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم وَأَطِيعُوا اللَّهَ
ص: 67
وَرَسُولَهُ إنْ كُنتُم مُؤْمِنِين. (1) 113 وفي هذه المقاطع من الآيات يبين القرآن حكم الأنفال، ولكنَّ الذي يظهر من آخر الآية أنَّهم قد اختلفوا فيها وتخاصموا- كما تشير له بعض الروايات- ولذا قال في آخرها فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم، والأمر بالتقوى ليس إلا لإمكان فعل مخالف للتقوى ومنافٍ لها، وكذا أمرهم بإصلاح ذات البين ليس إلا لوقوع ما يوجب النزاع والتخاصم، ثمَّ التعقيب على ذلك بوجوب إطاعة اللَّه ورسوله وأنَّ إيمانهم مشروط بالالتزام بتلك الإطاعة.
ومن الشواهد على وقوع التخاصم بينهم ما رواه أبو أمامة قال: سألت عبادة ابن الصامت عن الأنفال؟ فقال: «فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه اللَّه من أيدينا وجعله لرسوله، فقسَّمه رسول اللَّه بين المسلمين» (2) 114.
بل في بعضها ممَّا مرَّ من المصادر السابقة: أنَّ النبي أمر أحدهم بوضع السيف الذي غنمه في موضع ما يأخذه المسلمون فقال:
وضعته ورجعت وفي نفسي شي ءٌ لا يعلمه إلا اللَّه!!
ص: 68
فياترى ما هو الذي في نفسه؟ أيها الكاتب!!؟
وفي رواية أخرى له: قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحقّ بها منَّا...، وقال الذين أحدقوا برسول اللَّه: لستم بأحقّ بها منَّا؛ نحن أحدقنا برسول اللَّه...» (1) 115
قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيَا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلَا كِتَابٌ من اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ الأنفال: 67- 68.
ومن الواضح أنَّ مفاد الآية اختلاف المسلمين في الأسرى، فبعض يقول: اقتلوهم، وبعض يقول: ائتسروهم، فبيَّن اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ الأسر إنَّما يكون بعد الإثخان في الأرض لا قبله، ولذا بيَّن في آية أخرى من سورة محمد أنَّ حكمهم ضرب رقابهم أو الفداء (2) 116.
وبهذا رفع اللَّه اختلاف المسلمين حولهم، ثمَّ بيَّن أنَّ الأسر
ص: 69
موافق لعرض الدنيا لا للآخرة، وأنَّ سبق أمر اللَّه أوجب عدم استحقاقهم للعذاب العظيم فيما لو أقدموا على ما أرادوا.
فكيف كانوا كذلك؟ وكيف صدر منهم ذلك؟ ألم يكونوا يرجعون في كل أمورهم للرسول؟ وهل المتبعون لخطى النبي صلى الله عليه و آله والذين لا يحيدون عنه قيد أنملة يختلفون كهذا الاختلاف؟
وفي هذا المقطع أكبر دلالة على أنَّ الرضا والعفو الذي ادعاه الكاتب لكل أهل بدر ليس في محله، إذ أنَّ بعضهم أهل عرض الدنيا وآخرون من أهل الآخرة، كما أنَّ بعضهم راغب في الغنائم لا في عزَّة الإسلام، وبعضهم ليس إلا لأخذ الثأر والانتقام.
فكيف يُدَّعى شمول العفو والرضوان لهم كلهم؟
وكيف يدعى أنَّ لهم الحق في أن يذنبوا ما شاؤا ويرتكبوا من المعاصي ما أرادوا حتى في مستقبل أيامهم!!؟
والحق أنَّ التأمل في آخر الآية يقضي بأن يكون عفو اللَّه عنهم لكتاب سبق منه في ذلك، لمصلحة غيبيَّة لا نعلمها، وقد خفيت علينا، والشاهد على هذا ظهور أمارات استحقاق العذاب العظيم.
قوله تعالى «إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُم ..».- إلى قوله تعالى- «إذْ يُغَشِّيكُم النُّعَاسُ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِن السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنْكُم رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُم
ص: 70
وَيُثَبِّت بِهِ الأَقْدَام» الأنفال: 11.
ففي الشق الأول منها لمَّا طرقهم الخوف من كثرة قريش استغاثوا باللَّه عزَّ وجلَّ فأمدَّهم اللَّه بألف، وقيل بثلاثة آلاف، وقيل: إنَّ القراءة آلاف من الملائكة، فأورثهم ذلك اطمئناناً، ولذا غشيهم النعاس للأمن الذي حصَّلوا عليه، ولو لم يكن أمن لما غشيهم النعاس، فناموا فاحتلم أكثرهم وضربهم العطش فأمطرهم اللَّه حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضؤا وشربوا من الماء ما شاؤا (1) 117.
وبعد كل هذه الجولة فيما يتعلق بمعركة بدر لم يظهر لنا شي ءٌ مما ادعاه هذا الكاتب من دلالة الآيات على رضا الله عزَّ وجلَّ عن كل الصحابة مطلقاً ما مضى منهم وما سيأتي.
لقد أنزل اللَّه في ما يتعلق بمعركة أُحُد ما يقارب ستين آية من سورة آل عمران- كما ذكر الكاتب- ولكنَّه لم يذكر من تلك الستين إلا ثلاث آيات أو أربع، وكأنَّها ليس فيها أمر ذو أهميَّة للكاتب أو ممَّا يمس الصحابة فأهمل ذكرها؟ ولعل فيها ما لا يوافق غرضه من الكتاب؟
أو أنَّ فيها ما يوجب نقض غرضه، خاصة مع ضمِّ الروايات
ص: 71
المتعلقة بمعركة أحد؟
فَلِمَ- يا أخي الكاتب- تحاول إخفاء الحقائق التاريخيَّة المتعلقة بالموضوع؟!
وهب أنَّ هذا تمَّ لك وقبلناه؛ ولكن ما الموجب لإخفاء بعض الروايات المتوافرة في الصحاح والأسانيد؛ والمُفَسِّرة لبعض الآيات النازلة حول المعركة؟
ولو قبلنا أنَّ كتب المؤرخين والسِّيَر كانت كلها أساطير بنظرك- وإن كان نظراً قاصراً وغير ذي بعد علمي- فهل أنَّ صحيحي البخاري ومسلم أساطير؟؟ (1) 118
ل أنَّ كل كتب الحديث الأخرى أساطير أيضاً؟
وهل يسوغ في البحث العلمي أن يرمي الباحث كل مادَّة علميَّة لا توافق رغباته وآراءه بأنَّها أساطير وترهات وخرافات؟؟
فإلى متى إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه ياأيها المدَّعون الاتباع للسنَّة؟؟.
لمَّا أن انهزمت قريش في معركة بدر اتَّعدت (2) 119 لطلب الثأر؛
ص: 72
فجمعت عدَّتها وعَتَادِهَا وتهيَّأت للثأر، فكتب العباس للنبي صلى الله عليه و آله بذلك، فكان رأي النبي صلى الله عليه و آله أن لا يخرج من المدينة لرؤيا رآها، ولكنَّ الأنصار أشارت عليه بالخروج، ولمَّا همَّ صلى الله عليه و آله بذلك ولبس لَامَة (1) 120 حربه ردَّت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: لا تخرج؛ فقال: الآن وقد لَبِستُ لَامَة حربي ولا ينبغي لنبي إذا لبسها أن ينزعها حتى يقاتل ويفتح عليه (2) 121.
وعلى هذا الأساس خرج الرسول صلى الله عليه و آله في أَلْفٍ من أصحابه، ولمَّا وصلوا منطقة خارج المدينة انخذل عنه عبداللَّه بن أبي بن سلول في ثلث القوم، ولمَّا وصل النبي صلى الله عليه و آله جبل أُحُد تحصَّن في سبعمائة من رجاله، وجعل خمسين رجلًا على الجبل وأمرهم بالثبات سواء انتصرنا أم هُزِمْنَا.
ولكنهم لمَّا رأوا المسلمين قد انتصروا ودخلوا على المشركين يغنمون من أموالهم نزلواعن الجبل خلافاً لأمر النبي، وبقي اثنان أو ماينيف، فلمارأى المشركون ذلك كرُّوا على المسلمين من فوق الجبل فجرى ماجرى على المسلمين من ويلات، فضُرِب النبي وشجَّ رأسه وكسرت رباعيته وأغمي عليه، وقد فرَّ المسلمون لذلك ... (3) 122.
ص: 73
قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُم عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين آل عمران: 144.
كان المسلمون قد بايعوا النبي صلى الله عليه و آله على أن ينصروه ولا يخذلوه في موقف من المواقف، وقد سبق منَّا بيان خذلان بعضهم له بالكلام قبل معركة بدر.
وأمَّا في معركة أحد ففيها ظهرت خفايا نفوس لم تكن لتظهر لولا امتحان اللَّه لهم بهذه المعركة، فاعلم أنَّه لمَّا رمى ابن قمئة الحارثي رسولَ اللَّه بحجر فكسر رباعيَّته وشجَّ وجهه تقدَّم ليقتله، فذب عنه مصعب بن عمير حتى قتله ابن قمئة هذا، فظنَّ أنَّه قتل النبي فنادى- وقيل: إنَّ المنادي هو الشيطان- أنْ: «قُتِلَ محمدٌ» ففشا في الناس خبر قتله فانكفأوا فناداهم رسول اللَّه: إليَّ يا عباد اللَّه.. فرجعت له فئة فَلَامَهُم على هربهم (1) 123 فقالوا: يارسول اللَّه أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولَّيْنا مدبِرِين.
وقد روي أنَّه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت
ص: 74
عبداللَّه بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان (1) 124، ولم يَرُق لهذا المُفَسِّر أن يذكر من هم أولئك البعض، ولكن في بعض كتب السير أنَّهم كانوا جماعة من كبار الصحابة.
وقد نقل السيوطي في تفسيره للآية فقال: ذلك يوم أُحُد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والجرح، وتداعوا نبيَّ اللَّه؟ قالوا:
«قد قُتل»، وقال جماعة منهم: لو كان نبيَّاً ما قُتل، وقال أناس من عِلْيَةِ أصحاب النبي صلى الله عليه و آله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيُّكم حتى يفتح اللَّه عليكم أو تلحقوا به.
وذكر لنا أنَّ رجلًا من المهاجرين مرَّ على رجل من الأنصار يتخبط في دمه، فقال له: أشعرت أنَّ محمداً قد قُتِل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمَّدٌ قد قُتِل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم، فأنزل اللَّه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِل...
يقول: ارتددتم بعد إيمانكم (2) 125.
قال تعالى: وَلَقَد صَدَقَكُم اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِه
ص: 75
حَتَّى إذَا فَشِلْتُم وَتَنَازَعْتُم فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَنْ يُرِيدُ الدُّنيَا وَمِنكُم مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُم عَنْهُم لِيَبْتَلِيكُم وَلَقَد عَفَا عَنْكُم وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ* إذْ تُصعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُم فَأَثَابَكُم غَمَّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلَا مَا أَصَابَكُم وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* آل عمران:
152- 153.
فقد بيَّنت الآيات ظهور المسلمين على المشركين، وكاد النصر أن يكمل ولكنَّ رؤية المسلمين للغنائم أعجلهم بترك أماكنهم، فتنازعوا الترك وعدمه (1) 126، وكانت كلمة الفصل بنزولهم عن الجبل الذي كان يكوِّن ظهراً للنبي يحميه عن الأعداء، فما إن ارتفعت الحماية عن النبي صلى الله عليه و آله بعصيان المسلمين لأوامر النبيِّ حيث رأوا ما يُحبِّون من الغنائم، حتى أجهز الكفار عليهم بأن تحوَّطوهم من أعلى الجبل بقيادة خالد بن الوليد، ولكنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قد عفا عن أولئك العصاة وتفضل عليهم بالمغفرة (2) 127.
ص: 76
ثمَّ بيَّنت موجب العفو عنهم، وهو الذنب الذي ارتكبوه في المعركة ولمَّا تنتهِ بعدُ، ألا وهو فرارهم من الزحف وهو المعبَّر عنه بقوله: تُصْعِدُون وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُم.
ولعلَّك لا تصدِّق بصدور هذا الذنب منهم، والعلَّة هي كونهم صحابة (1) 128، فهاك بعض الشواهد على ما ذكرنا من الذنب (2) 129 والمعصية:
1- قال محمد بن مسلمة: «سمعتْ أذناي وأبصرتْ عيناي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول يومئذٍ وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم يلوون عليه وإنَّه ليقول: إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، أنا رسول اللَّه! فما شرح منهما واحد عليه ومضيا (3) 130.
ص: 77
وفي هذا أكبر شاهد على تحقق الفرار من بعض الصحابة، والفرار من الزحف يعدُّ من الكبائر، بل من أكبر الكبائر.
2- فقد روت أمُّ المؤمنين عائشة عن أبيها: «كان أبوبكر- إذا ذكر يوم أحد- بكى ثمَّ قال: ذاك يوم طلحة... ثمَّ أنشأ يحدث قال: كنتُ أول من فاء (1) 131 يوم أحد.. فرأيت رجلًا يقاتل مع رسول اللَّه فقلت: كنْ طلحة التيمي؛ حيث فاتني مافاتني، يكون رجلًا من قومي...» (2) 132، ولا يخفى أنَّه مع اعترافه بالفرار يتمنى أن يكون المنافح عن رسول الله هو طلحة بن عبيد اللَّه التيمي لأنَّه من قومه، ولكنَّ أمنيته لم تتحقق فقد كان طلحة من الفارِّين أيضاً، فاستمع لهذا الخبر لتعرف ذلك:
3- «لمَّا دوَّن عمر الدواوين جاء طلحة بنفر من تيم يستقرض
ص: 78
لهم، وجاء أنصاري بغلام مصفَّر سقيم، فسأل عنه عمر فأُخبِر أنَّه البراء بن أنس بن النضر؛ ففرض له أربعة آلاف، وفرض لأصحاب طلحة ستمائة، فاعترض طلحة، فأجابه عمر: إني رأيت أبا هذا جاء يوم أُحُد وأنا وأبوبكر قد تحدثنا: أنَّ رسول اللَّه قد قُتِل؛ فقال: يا أبا بكر ويا عمر: مالي أراكما جالسين؟ إن كان رسول اللَّهِ قُتل فإنَّ اللَّه حيّ لا يموت» (1) 133.
وقال أنس بن مالك: «إنَّه لمَّا انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدفي رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل محمد رسول اللَّه (2) 134.
4- كان عثمان ممَّن فرَّ وجاء بعد ثلاثة أيام من الواقعة فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لقد ذَهَبْتَ بها عريضة (3) 135.
ص: 79
5- قال الذهبي: انهزم الناس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم أحد فبقي معه أحد عشر رجلًا، وقال: أُفرِد يوم أحد في سبعة نفر من الأنصار واثنين من المهاجرين (1) 136، وقيل: معهم سهل بن حنيف.
6- أخفى عثمان بن عفَّان أحد جنود قريش وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص «ابن عمه» وقد أخبر اللَّه نبيَّه بذلك فأصدر أوامره بجلبه وقتله، ولمَّا جاءوا به ادَّعى عثمان أنَّه جاء يطلب الأمان له! فأعطاه الرسول الأمان له ثلاثة أيَّام، لكنَّه لم يخرج وبقي ثلاثاً يستعلم أخبار الرسول ليأتي بها قريشاً، ولما عاد الرسول صلى الله عليه و آله في اليوم الرابع فرَّ معاوية، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فرمياه حتى قتلاه (2) 137.
7- ذكر الحاكم عن سعد: «لمَّا جال الناس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تلك الجولة تنحيتُ، فقلتُ: أذود عن نفسي، فإمَّا أن أُستَشْهد وإمَّا أن أنجو.. إلى أن قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أين كنتَ اليوم يا سعدُ؟ فقلتُ: حيث رأيتَ» (3) 138.
وغيرها الكثير من المواقف والحوادث التي يتنزه القلم عن
ص: 80
ذكرها، ويترفّع عن التعرّض لها، لوضوحها ومعرفة كل أحد بها.
ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب وأمثاله حيث يحاولون التصفيق بيد واحدة، فيرموا عن غير قوسهم، ويركبوا غير مركبهم، كل ذلك انتصاراً لأقوام ذهبوا بأعمالهم ولهم حسابهم الخاص عند اللَّه.
ولعلَّهم أسفوا لمَّا لم يشاركوهم في مثل تلك الأمور، فهبّوا للدفاع عنهم حتى ينالوا ما نالوا؟؟
قوله تعالى: إنَّ الذِّينَ تَوَلَّوْا مِنْكُم يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا استَزَلَّهُم الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُم إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم الأنفال: 155.
فإنَّ الآية أصرح ممَّا قبلها في بيان تحقق الفرار من الزحف خوفاً من المشركين، ففي تفسير الكشاف التصريح بأنَّه لم يبقَ مع الرسول إلا سبعة أو أحد عشر أو اثنا عشر..، وفي دلائل النبوة للبيهقي: عندما سُئِلَ صلى الله عليه و آله عن الفارِّين من أرض المعركة يومئذٍ، قال: كفر عامَّتهم (1) 139.
وعلى كلّ حال؛ فليس غرضنا بيان حكمهم، من حيث
ص: 81
الثبات أمام العدو أو الفرار، ولكنَّها روايات تُذكر في الباب فأحببنا ذكرها، تنويهاً على حال الصحابة، في مقابل ما دلَّس به هذا الكاتب على القُرَّاء من إخفاء ما ينبغي إظهاره، أو التمسك بما هو ظاهر من صفاتهم لكل أحد وتعميمها على جميعهم، وكأنَّه ليس يوجد غيره من صفات وأحوال.
وأمَّا آخر هذا المقطع، والذي اقتطع الكاتب مثيله من آية أخرى، وهو صدور العفو من ساحة القدس الإلهي- وهو العفوُّ الكريم- فهو مزيد تفضل ومنَّة من اللَّه عزَّ وجلَّ عليهم، لعلَّهم يتَّقُون في مستقبل أيامهم ولا يرجعوا إلى مثلها، وذلك من حيث إنَّ الشيطان قد استزلَّهم فتابعوه، خاصة وأنَّهم قد سبق منهم بيعته صلى الله عليه و آله على أن ينصروه ويؤازروه وأن لايخذلوه، فكان ذلك منهم خروجاً عن عهدهم، ونقضاً له، ومع كلِّ هذا فقد عفا اللَّه عنهم.
والسؤال الذي أثاره هذاالكاتب، ونحتاج للإجابة عليه هو:
أنَّ عفواللَّه ومغفرته عنهم عفوٌ عن كل ذنوبهم حتى المستقبليَّة منها، فضلًا عن الماضية فيما قبل المعركة؟ أم أنَّه عفوٌ عمَّا صدر منهم في هذه المعركة من الفرار الذي صدر منهم ليس إلا؟
إنَّ الذي يُستفاد بل يَنُصُّ عليه بعض المفسرين كتفسير ابن كثير والكشاف والبيضاوي والرازي، بل الجلُّ منهم: أنَّه عفوٌ عمَّا صدر منهم هنا في هذه الواقعة، إذن فتعدية العفو لغيره من المعارك
ص: 82
أو المواقف- فضلًا عمَّا يصدر بعدها في مستقبل أيَّامهم- ليس منظوراً إليه في الآية إطلاقاً.
فمن يدّعيه يُحمِّل النص ما لا يتحمل، بل ينسب إلى القرآن وإلى الرسول، بل إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يقله وما لم يُرِده، بلا دليل أو بينة وبرهان مبين.
وما الداعي إلى أن يعفو عنهم فيما يصدر عنهم مستقبلًا؟ وهل هو إلا تغريرٌ بهم وإلقاء لهم في المعصية؟ وبعد ذلك، ما فائدة التكليف لهم؟ إذ أنَّهم معفوٌّ عنهم في كل ما يصدر أو سيصدر عنهم مستقبلًا، فهم في الجنَّة على كل حال أحسنوا أو أساؤا؟!.
وأي عاقل يرى أنَّ عفو السيِّد عن مولاه وعبده في ذنبٍ صدر منه في يومٍ ما بأنَّه عفوٌ صدر منه في حقّ كلّ ذنوب عبده ذاك؛ السابقة والمستقبلة؟؟
حاشا وكلَّا للعقلاء أن يدَّ عُوا ذلك!
قوله تعالى: الذِّينَ استَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُم القَرْحُ لِلذِّينِ أَحْسَنُوا مِنْهُم وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيمٌ* الذِّينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فَاخْشَوهُم فَزَادَهُم إيمَانَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ* آل عمران:
172- 173.
ص: 83
لمَّا رجع المسلمون من أُحُد سمعوا بأنَّ أبا سفيان يهمُّ بالرجوع لهم وإعادة الكرَّة عليهم في المدينة، فتهيأ النبي صلى الله عليه و آله للقتال وعزَّم بأصحابه أن يهبُّوا معه، فخرجوا بعد لأْيٍ شديد، وامتناع من البعض (1) 140، والبعض استجاب مباشرةً، فخرجوا وخيَّموا في حمراء الأسد، ولكنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قد أرعب قلوب المشركين فرجعوا إلى مكَّة، ولم يتقدموا إلى المسلمين، فرجع المسلمون سالمين في أنفسهم، وقد تفضل اللَّه عليهم بالنعم، واختلف فيها:
فقيل هي السلامة، وقيل التجارة التي ربحوها، وقيل رضا اللَّه وعفوه عنهم، وقيل إرعاب المشركين...
وعلى كلّ حال، فالآية متصلة بما قبلها، فالاسم الموصول هنا راجع للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة، فهم الذين استجابوا للَّه وللرسول، ولذا قال النبي صلى الله عليه و آله: لا يخرج معنا إلا من شهد الواقعة بالأمس.
ولكنَّ تتمة الآية فيها مزيد اختصاص لجماعة منهم- في ما لو بنينا على أنَّ كلمة «منهم» للتبعيض- فمفادها أنَّ الذين أحسنوا واتقوا من الذين استجابوا، لا كل الذين استجابوا، فهي تتعرض لحكم مَنْ أحسن واتقى ممَّن استجاب فقط، وهذا هو المعنى
ص: 84
الظاهر منها.
خلافاً لما ذكره صاحب الكشَّاف والفخر الرازي وغيرهم من دعوى إرادة التبيين، وأنَّ كل الذين استجابوا أحسنوا واتقوا، فهي دعوى بلا برهان، إذ أنَّ إحسانهم مشكوك فيه، خاصة بعد أن صدر منهم ما صدر في الأمس المذكور وهو يوم أُحُد، ولذا ذكر في الكشاف أنَّ النبي صلى الله عليه و آله قال لهم: سوف أخرج، وأقاتلهم، ولو كنت وحدي: «حسبنا اللَّه ونعم الوكيل».
وقد سُمِّيت الأحزاب لتحزب قريش والقبائل واليهود، وكانوا نحو عشرة آلاف فارس، والمسلمون كانوا ثلاثة آلاف، وفي هذه المعركة الكبيرة نزل ما يصل إلى تسع آيات من سورة الأحزاب.
ولكنَّ هذا الكاتب- كعادته- اقتصر منها على ثلاث آيات وهي مما يوافق هواه، وترك ما يمكن أن يخدش بكرامة مَنْ ينافح عنهم مستميتاً بماله ودمه وقلمه وفكره، فاستمعْ لهذه الآيات لترى صحَّة دعوانا وكذب دعواه على إطلاقها:
قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إذ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فَأرسَلْنَا عَلَيْهِم رِيحَاً وَجُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وكَانَ
ص: 85
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرَاً* إذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُم وَمِن أَسْفَلَ مِنكُم وإذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَت القُلُوبُ الحَنَاجِر وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابتُلِي المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالًا شَدِيدَاً* الأحزاب: 11.
في هذه الآيات تذكير من اللَّه عزَّ وجلَّ بنعمته على المسلمين بأن أعانهم على ردِّ تلك الجنود حيث جاءوهم من جانبين: من الأعلى وهم اليهود والقبائل، ومن الأسفل وهم قريش.
كما بيَّنت الآيات الحالة النفسيَّة للمسلمين من خلال الفزع الذي انتابهم بصورتين: زاغت الأبصار؛ أي مَالَتْ وكادت أن تأفل وتطير من محلها، وبلغت القلوب الحناجر، كنايةً عن قرب الموت لهم.
فظنوا ظنَّ السوء بالنبي ونبوَّة النبي فقالوا: لو كان نبي حقٍّ لما خذله ربُّه، وهو ظنُّ سوء باللَّه عزَّ وجلَّ، وشكٌّ في حقيَّة رسالة النبي صلى الله عليه و آله.
وإليك شاهداً على ذلك الخوف والقلق النفسي والشك الذي انتابهم: فقد ذكر البيهقي (1) 141 في سننه الكبرى عن حذيفة: قال رجل: لو أدركتُ رسول اللَّه قاتلتُ معه أو أبليتُ، فقال له
ص: 86
حذيفة: أنتَ كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول اللَّه ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة ومرَّ صلى الله عليه و آله فقال: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة، فلم يجبه منَّا أحدٌ، ثمَّ نادى الثانية ثمَّ قال: يا حذيفة قم فأْتِنَا بخبر القوم، فلم أجد بدَّاً من ذلك، وقد ذكر اسمي. وقد رواه مسلم أيضاً (1) 142.
ومن عباراتهم قول معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ونحن لا نقدر الآن أن نذهب إلى الغائط (2) 143.
وعلى هذا فقوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا خطاب للذين آمنوا، هذا مع أنَّ منهم الثابت القلب والقدم، هذه طائفة خاطبها القرآن، والطائفة الثانية الذين هم على حرفٍ، والثالثة هم المنافقون الذين لم يكن الإيمان إلا بألسنتهم.
فأمَّا قول المنافقين؛ فقد حكاه القرآن، وأمَّا قول مرضى القلوب فهو ما حكيناه سابقاً عن معتب وأمثاله، وأمَّا قول المؤمنين فهو: أنَّنا مُبْتَلَوْن من اللَّه في هذه الوقعة، ولذا حكى عنهم القرآن.. وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدَاً..
وأمَّا ضعاف القلوب فهم الذين قالوا: إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِي بِعَورَةٍ إن يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارَاً..
ص: 87
قوله تعالى: وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّون الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا* قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُم الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُم مِن المَوتِ أَوْ القَتْلِ وَإذَاً لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا* الأحزاب: 15- 16.
من الأمور التي أوجبت زيادة خوف المسلمين ووجيبهم هو مخالفة بعض القبائل لهدنتها مع النبيِّ، ونقضها للعهد المضروب منهم للنبيِّ بأن لا يحاربوه ولا ينتصروا لغيره عليه، وهذا الذي أوجب لهم الخوف ونقض ما عاهدوا رسول اللَّه في بيعتهم له بعد تراجعهم له في أحد حيث أخذ العهد عليهم أن لا يفروا ثانية وإلا نزل بهم العذاب، وبأن لا يولُّوا الأدبار، ولا يفرُّوا من الزحف، والتقريع والإيعاد من اللَّه لهم واضح من قوله: وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا، فإنَّهم سيسألون عن ذلك العهد، وما كان منهم اتجاهه، وهل حافظوا عليه أم نقضوه وجعلوه وراء ظهورهم؟
ثمَّ يعقب على ذلك بأنَّ الفرار الذي صدر منكم لن ينفعكم، فإنَّ الموت ليس ممَّا يختصُّ تحققه بأرض القتال والمعركة، بل هو بيد اللَّه يجعله حيث يشاء ويوقعه بمن شاء وقتما يشاء.
ونضيف هنا توضيحاً للإشكال: إنَّ الذين عاهدهم اللَّه على عدم الفرار هل هم الصحابة أم المنافقون أم الكفار؟ وهل أنَّ الفرار وقع منهم أم لا؟ وهل حصَّلوا على ما أمَّلوا من الفرار أم لا؟
ص: 88
نرجو من الكاتب أن يتأمل في النصوص القرآنية جيداً قبل أن تمسك يده بالقلم مرَّة أخرى.
قوله تعالى: قَدْ يَعْلَم اللَّه المُعَوِّقِينَ مِنْكُم وَالقَائِلِين لإخْوَانِهِم هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إلَّا قَلِيلًا* أَشِحَةً عَلَيكُم فَإذَا جَاءَ الخَوْف رَأَيْتَهُم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُم كَالذِّي يُغْشَى عَلَيْهِ مِن المَوْتِ فَإذَا ذَهَبَ الخَوْف سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَةً عَلَى الخَيْر أُولَئِكَ لَمْ يُؤمِنُوا فَأحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُم وَكَان ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرَاً الأحزاب: 18- 19.
وحقيقة الأمر أنَّ اللَّه يعلم حال هذه الطائفة من الصحابة، فهم ظاهراً مؤمنون، بل يتظاهرون بذلك أمام المؤمنين، ولكنَّهم إنَّما يسايرون المؤمنين لتثبيطهم عن الحرب ومنعهم من الخروج مع الرسول صلى الله عليه و آله لمقاتلة المشركين بعد ذلك، وكانوا يقولون: ما كان محمدٌ وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لأكلهم أبو سفيان.
فكانوا يستدعون ضعاف القلوب من الصحابة إليهم ويثبطونهم عن القتال، لكنَّ كلَّ هذا لا يعني أنَّهم لم يكونوا من الصحابة ظاهراً، خاصة على معنى الصحبة عندكم، وهو: من رأى النبي زماناً، أو مَن رآه وصحبه وروى عنه.
وكذا على المعنى المختار لك أيها الكاتب بأنَّ الصحابي من آمن
ص: 89
بالنبي وصحبه ولو لفترة، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ممَّن رآه وآمن به، ولكن هكذا تكون القلوب المريضة التي لم تؤثّر فيها الصحبة، وكما وصفها القرآن فقد قال تعالى حاكياً عنهم: وَإذَا لَقُوا الذِّينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إنَّا مَعَكُم إنَّمَا نَحْنُ مَسْتَهْزِؤُون (1) 144، فتراهم يُسايِرون المؤمنين إلا أنَّ قلوبهم ليست معهم، ويخافون أن يتخطفهم الموت، والمعبَّر عنه في الآيات بالبأس، فلا يقدمون عليه إلا للدفاع عن أنفسهم.
ولكن بعد انتهاء المعركة يُحادُّون المؤمنين بألسنتهم طلباً للغنائم، وكأنَّهم قاتلوا معهم، ولذا أخبر في آخر الآية بأنَّهم يُظهرون لكم الإيمان، ولكنَّهم ليسوا مؤمنين واقعاً: أُولَئِكَ لَمْ يُؤمِنُوا.
قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه وَمَا زَادَهُم إلَّا إيمَانَاً وَتَسْلِيمَاً* الأحزاب: 22.
هذا بيان لقسم من الصحابة الذين قد ناصروا النبي وصدقوا ما عاهدواعليه، وهم الذين بلغوا من الإيمان الدرجة الكبيرة،
ص: 90
ولذا فلم يزدهم تجمُّع الأحزاب خوفاً، و لم يورثهم شكاً في دينهم، أو في رسالة نبيهم، كما وقع ذلك للطائفة السابقة من الصحابة؛ فقال حاكياً حالهم: وَيَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، حيث ظنُّوا ظنَّ الجاهليَّة، ولكنَّ هذا ليس مدحاً لكل الصحابة؛ كما هو واضح.
وعلى هذا يتَّضح أنَّ الصحابة لم يكونوا كلّهم على نسقٍ واحدٍ، وفي درجة واحدة من الإيمان بالنبي وبحقيَّة رسالته، بل كانوا يتفاوتون في ذلك، وهذا في حد ذاته ليس عيباً فيهم، ولكنَّ العيب والنقص فيمن يدعي لهم ما لا يدعونه لأنفسهم.
ما يتعلّق ببطل المعركة الكبير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: فمن المؤسف جدَّاً أن يحاول هذا الكاتب اللفَّ والدوران حول آيات العفو والغفران للصحابة، ويعطف على ذلك بآيات التأييد والنصر من قبل اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين، دون تعرض لمن تمَّ النصر والتأييد على يده وبسيفه.
ففي معركة بدر الكبرى كان أكثر قتلى المشركين بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكذا في أُحُد، وهكذا في معركة الخندق هذه.
فمن الذي برز لعمرو بن عبد ودّ العامري حينما طلب المبارزة
ص: 91
من المسلمين؟ هاك النصوص التي تحكي ذلك:
1- قال حذيفة لبعضهم:... «يا لُكَع وكيف لا يحتمل؟ وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة- يعني نفسه- وجميع أصحاب محمد صلى الله عليه و آله يوم عمرو بن عبد ودٍّ، وقد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم ما خلا عليَّاً، فإنَّه برز إليه وقتله على يده.
والذي نفس حذيفة بيده لَعَمَلُهُ ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة» (1) 145.
2- روى الحاكم في المستدرك قول النبي صلى الله عليه و آله: «لَمُبَارَزَةُ علي بن أبي طالب لعمرو ابن عبد ودٍّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة» (2) 146.
وفي لفظ آخر: أفضل من عبادة الثقلين، وفي ثالث: تعدل عمل الثقلين.
فياترى لو سألنا هذا الكاتب: هل كان من الحق والعدل والإنصاف أن تهمل ذكر رجل كان سبب النصر في تلك المعركة
ص: 92
بل في غيرها أيضاً، محاولًا إخفاء الحقيقة الناصعة، وتجعله كأحد عامَّة الصحابة الذين تمتدحهم لمجرد صحبتهم؟
وهل تعدل مَنْ تساوي أو تفضل ضربَتُه فقط في ذلك اليوم لعمرو بن عبد ودّ كل أعمال الثقلين بل عبادتهم، وإلى يوم القيامة، تعدله بمن جبن عن قتال الأبطال؟
فما لكم كيف تحكمون!!؟
وهل بقي المسلمون وتمَّ لهم النصر لولا سيف علي عليه السلام في ذلك اليوم، وفي غيره من أيَّام المسلمين، فأين تشدّقك في الكثير من خطبك وكلماتك عبر الإنترنت وغيره بحبّ علي، وبأنَّك الموالي له والمحبّ، والمبغض لعدوه؟؟ وهل ينفتل المحبّ عن ذكر محبوبه؟؟
أم هل يقدر المحبّ على أن لا يطيع محبوبه؟ بل يرى اللذَّة كل اللذَّة ومنتهى الكمال أن يتوصل لإداء فرض المحبَّة من الطاعة والولاء، أليس كذلك أيها المحبّ الواله!!؟
لقد وقع صلح الحديبيَّة في السنة السادسة من الهجرة، ومنشأ ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه و آله قد رأى رؤيا أنَّه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرَّف مع المعرِّفين، فخرج ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه، وكان خارجاً قاصداً للعمرة لا الحرب، فمنعته قريش من دخول مكَّة، وتمَّت المراسلات بينهم حتى تمَ
ص: 93
الصلح المذكور، وكان الكاتب للصلح هو علي عليه السلام (1) 147، فكان سلام اللَّه عليه هو مبعوث الرسول صلى الله عليه و آله إلى قريش (2) 148، وكان الصلح بشروط معينة مذكورة في محلها.
وهنا عدَّة مقاطع:
قوله تعالى: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِينَاً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.. سورة الفتح: 1- 2.
والمراد أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ سيرزقك الفتح المبين مستقبلًا، وهذا الصلح مقدمةً له ليس إلا، بل هو الفتح واقعاً حيث إنَّ قريش اعترفت بوجود مستقل للنبي صلى الله عليه و آله، ولرسالته وللقوة التي عنده، فاضطرت للمصالحة معه والمهادنة لمدَّة عشر سنين، فجرى الصلح كما أراد النبي بإرادة اللَّه، ولكنَّ قِصَر نظر البعض أوجب امتناعهم عن ذلك وتأبيهم عن قبوله، فصدر منهم ما أغضب الرسول، فاستمع لهذا الكاتب ما يقول: «الاشتياق إلى مكَّة يفوق
ص: 94
الوصف، وقد بُشِّروا بدخولها، ولكنَّ محبَّتهم للرسول وطاعته والتأسي به والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند اللَّه هي سمة ذلك الجيل» (1) 149.
واقرأ ما نتلوه عليك هنا لترى صحَّة دعواه من كذبها:
1- روى البخاري أنَّ عمر بن الخطاب كان يسير مع النبي صلى الله عليه و آله ليلًا فسأله عمر عن شي ءٍ فلم يُجبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمَّ سأله فلم يجبه، ثمَّ سأله فلم يجبه، فقال عمر- يخاطب نفسه-: ثكلتك أمُّك يا عمر؛ نزرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاث مرات كلّ ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركتُ بعيري ثمَّ تقدمتُ أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآنٌ، فما نشبتُ أن سمعتُ صارخاً يصرخ بي، قال: لقد خشيتُ أن يكون نزل فيَّ قرآنٌ، فجئت رسول اللَّه فسلَّمت عليه، فقال: لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثمَّ تلا: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِينَاً* (2) 150.
ص: 95
2- قال في الدرر الكامنة (1) 151: عظم الصلح على نفر من المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام.
أقول: ولم يصرح بهذا البعض مَنْ هو؟ تحاشياً عن ذكر اسمه لئلا يستلزم منقصة توجب زوال الهالة القدسيَّة حوله، لكونه من كبار الصحابة، مع عدم توجههم إلى أنَّ ذلك الشخص يعترف على نفسه بذلك، ولا يجد في نفسه مانعاً عن ذكر هذا الكلام عنه.
3- روى البخاري (2) 152: قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيتُ نبي اللَّه صلى الله عليه و آله.
فقلتُ: ألستَ نبي اللَّه حقاً؟ قال: بلى.
قلتُ: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلتُ: فلمَ نعطي الدنيَّة في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول اللَّه، ولست أعصيه وهو ناصري.
قلتُ: أو ليس كنت تحدثنا أنَّا سنأتي البيت فنطَّوّف به؟ قال:
بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟
ثمَّ خرج من عنده وجاء أبا بكر وحدّثه بما حدّث به النبي صلى الله عليه و آله
ص: 96
فأجابه بما أجابه. قال الزهري: قال عمر: فعملتُ لذلك أعمالًا!!! (1) 153 4- قال الواقدي في مغازيه:... جعل عمر يرد الكلام على رسول اللَّه... (2) 154 5- وفي نفس المصدر السابق: ارتبتُ ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمتُ إلا يومئذٍ، وراجعتُ النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط، ولو وجدتُ ذلك اليوم شيعةً- وفي رواية مائة- على مثل رأيي، تخرج عنهم رغبة عن القضيَّة لخرجتُ (3) 155.
وفي هذا الكلام دلالة واضحة على الرغبة في التمرد على قرار النبي بالصلح، ولكنَّ المشكلة هي عدم وجود الأنصار.
6- ذكرنا سابقاً: أنَّ النبي صلى الله عليه و آله أمر الصحابة بعد الصلح أن يحلقوا وينحروا هديهم، فلم يقم أحدٌ منهم، فدخل إلى أمّ سلمة شاكياً لها حال أصحابه، فقالت: لا عليك منهم، اخرج واحلق.
ص: 97
فخرج وحلق وذبح، فقاموا متثاقلين الواحد تلو الآخر، فحلق جماعة وقصَّر آخرون (1) 156، منهم عثمان بن عفَّان (2) 157.
7- وبعد ذلك الصلح قال رسول اللَّه: يرحم اللَّه المحلِّقين. قالوا:
والمقصِّرِين؟
قال: يرحم اللَّه المحلقين. قالوا: والمقصرِّين؟
قال: يرحم اللَّه المحلقين. قالوا: والمقصرِّين؟
قال: والمقصرين. قالوا: يارسول اللَّه؛ فلمَ ظاهرتَ الترحّم للمحلِّقين دون المقصرِّين؟ قال: لأنَّهم لم يَشُّكُوا (3) 158.
قوله تعالى: هُوَ الذِّي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤمِنِين لِيَزْدَادُوا إيمَانَاً مَعَ إيمَانِهِم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمَاً حَكِيمَاً الفتح: 4.
ليس من الأمور الخافية أنَّ السكينة التي أنزلها اللَّه هي في قلوب المؤمنين، لا في قلوب كل الصحابة، كما يمكن لهذا الكاتب
ص: 98
أن يدعيه، إذ أنَّه قد مرَّ عندنا سابقاً- عبر بعض الآيات- نفيُ الإيمان عن بعض الصحابة واقعاً، وإن كانوا محكومين بالإيمان على حسب ما يُظهِرُونَهُ أمام المؤمنين.
كما أنَّ منهم مرضى القلوب الذين تحدث القرآن عنهم في آيات متعددة: وأمَّا الذِّينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجسَاً إلَى رِجْسِهِم (1) 159، أفي قلوبهم مرضٌ أم ارتابوا (2) 160، فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم (3) 161.
فهل أنَّ السكينة التي أُنزِلَت عمَّتهم كلَّهم أيُّها الكاتب؟ وقد رأينا أنَّ منهم الشاكَّ، ومنهم المرتابَ، ومنهم المنافِق، والمثبِّط، و.. و..؟
قوله تعالى: لَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنْ المُؤمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْت الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُم فَتْحَاً قَرِيبَاً
تتعرض هذه الآية لما وقع من بيعة الرضوان تحت الشجرة المعروفة بشجرة الرضوان، والتي قدَّمنا سابقاً أنَّ الخليفة الثاني
ص: 99
قطعها بعد ذلك وفاءاً لوعده الذي ضربه على نفسه في صلح الحديبيَّة بقوله: «فعملتُ لذلك أعمالًا».
حدَّث سلمة بن الأكوع فقال: بينما نحن قافلون من الحديبيَّة نادى منادي النبي صلى الله عليه و آله: أيّها الناس؛ البيعة.. البيعة، قال: فسرنا إلى رسول اللَّه، وهو تحت شجرة سمُرَة، فبايعناه، وذلك قول اللَّه عزَّوجلَّ: لَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنْ المُؤمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
كما قد ذُكِرَ في سبب نزولها: أنَّ الرسول صلى الله عليه و آله حين نزل الحديبيَّة بعث جوَّاس بن أميَّة الخزاعي رسولًا إلى أهل مكَّة، فهمُّوا به، فمنعه الأحابيش، فلمَّا رجع دعا عُمَرَ ليبعثه فقال: إنِّي أخافهم على نفسي، لِمَا عُرِف من عداوتي إيَّاهم، وما بمكَّة عَدَوِيٌ يمنعني، ولكن أدلُّك على رجلٍ هو أعزّ بها مني وأحبّ إليهم: عثمان بن عفَّان فبعثه...» (1) 162 ولقد حاول هذا الكاتب أن يثبت أنَّ الصحابة كلَّهم ممدوحٌ، وكلَّهم عدولٌ من خلال هذه الآية، بقرينة أنَّ الرضا في الآية عامٌّ شاملٌ لكلِّ الصحابة، ولكنَّ ما رامه ليس ممَّا يمكن إثباته من هذه الآية فضلًا عن غيرها من الآيات لوجوه:
أوّلًا: إنَّ متعلق الرضا في الآية هم «المؤمنون» وليس
ص: 100
الصحابة لفظاً ولا معنى، وذلك لعدم اعتبار كل الصحابة مؤمنين، وهذا مسلَّم حتى بالنسبة للكاتب لو أعطى التأمل حقَّه، فالمرضيُّ عنه مَن تعنون بعنوان المؤمن، وليس من اتصف بأنَّه من الصحابة، وإن كان المؤمنون من الصحابة، لكن قد ثبت أن في الصحابة من خرج عن الإيمان، فلا تنافي بين الأمرين.
ثانياً: قد اعترف الكاتب بأنَّ منادي الجهاد نادى: لا يخرج معنا إلا من شهد الواقعة، فممَّن خرج معهم جابر بن عبد اللَّه وهو من الذين لم يشهدوا المعركة معهم (1) 163، لكنَّه من المؤمنين حقاً فلم يمانع النبي في حضوره معهم، وذلك لمعرفته به.
وممَّن كان في بيعة الرضوان عبداللَّه بن أبي، رئيس المنافقين، ومن المعروف المسلَّم أنَّ عبد اللَّه هذا ممَّن شهد البيعة.
وممَّن حضر البيعة أيضاً الحرقوص بن زهير السعدي أو التميمي، وهذا صار من رؤوس الخوارج بعد ذلك، بل هو الذي قال للنبي، «اعدل يا محمد»، وقد تقدم منَّا ذلك.
ثالثاً: إنَّ متعلق الرضا في الآية مبهم، وعلى هذا فلا يمكن لنا ولا له بأن نحدد متعلق الرضا ما هو؟
ولكنَّ الذي يمكن البحث فيه هو أنَّ الإهمال لمتعلق الرضا لا يمكن من قبل الحكيم تعالى، حيث يلزم أن يكون صدور الرضا
ص: 101
منه تعالى عنهم سواء فعلوا ما يوجبه أو لا. وكذا الإطلاق غير ممكن في المقام، وذلك للزوم أن يصدر الرضا منه تعالى عنهم حال صدرو أي فعل، وفي كل زمان- الماضي والحاضر والمستقبل- وكلّ مكان، وهذا ما لا يلتزم به عاقلٌ، خاصَّة مع ملاحظة آيات العذاب لبعضهم وما نزل فيهم، وتكفينا شاهداً على هذا سورة الفاضحة- التوبة-.
إذن؛ فليس إلا تقييد الرضا، فلابدَّ من كون الرضا مقيَّداً بالرضا في زمان خاصٍّ وعن فعل مخصوص في ظرف قد اختصَّ به، والمرضيُّ عنهم جماعةٌ خاصَّة كما نصَّت عليه الآية، علاوة على كون ذلك غايته ذلك الزمان، دون ما بعده من الزمان.
إذن؛ فلا دلالة في الآية على شي ء من الإطلاق ممَّا يروم إثباته هذا الكاتب.
قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار وَالذِّينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُوْا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِك الفَوْزُ العَظِيم التوبة: 100.
لقد حاول الكاتب جاهداً إقناع القارى ء بأنَّ الصحابة لا يمكن أن تصل لساحتهم أقلام النقد والطعن من أي أحدٍ، بل
ص: 102
تشدق بمنع خيال المتخيل للطعن، وهو من المبالغة المفضوحة، خاصة مع وجود القرائن على صحة نقد الناقد، بل واقعيَّة ذلك في حد ذاته، وباعتراف كبراء القوم به.
بل الآيات التي بعدها والتي قبلها تؤلِّف منظومة واحدة في المعنى الذي نروم بيانه، من عدم استواء عدالة الصحابة وإخلاصهم وإيمانهم على درجة واحدة.
فياترى إلى متى نظل نكابر عقولنا ووجداننا؟
وعلى كل حال فهاك بعض الكلمات حول هذه الآية، تنفع في ردّ ما ذكره وإثبات ما ما منع من تحققه، فضلًا عن تصوره، فضلًا عن تخيله:
أوّلًا: إنَّ الحكم المذكور في الآية هو- كما يقول العلماء- من القضايا الخارجيَّة، أي من الوقائع الخاصة الشخصيَّة المختصة بأشخاص بأعيانهم، ومثل هذه القضايا لا يمكن تحصيل حكم كلي منها.
فالسابقون جماعة خاصة، والمهاجرون كذلك، والذين اتبعوهم بإحسان مثلهم، لكن هم ليسوا كل متبع لهم، بل خصوص من اتبعهم باختيار منهم وإحسان، فلا تشمل الآية المتبع لهم عن كراهية وقهر، أو المتبع لهم لأغراض دنيويَّة.
هذا بالنسبة للموضوع.
بل حتى لو كانت من القضايا الحقيقيَّة لم تنفع هذا الكاتب في
ص: 103
شي ء من أمر مدعاه، وذلك لثبوت خروج بعض الأفراد عنها قطعاً، وقد قال أهل الاختصاص يكفي لنقض الموجبة الكليَّة ثبوت السالبة الجزئية.
فما يدَّعيه من ثبوت الرضا لكل الصحابة مطلقاً، وما يدّعى لنقض هذه الكليَّة ثبوت أنَّ بعض الصحابة ممَّن سبق في الهجرة أو من الأنصار قد فعل ما يوجب غضب اللَّه عليه، ولو بتوسط غضب نبيِّه كما في روايات كثيرة.
وهذا ثابت بالنصوص الكثيرة حول بعض الأشخاص، كما مرَّ منَّا ذكر بعض الروايات المثبتة لذلك عنهم، فلا تبقى للقضية الكليَّة التي يريدها دعامة إلا وانهدَّ ت.
ثانياً: وأمَّا بالنسبة لمحمول القضيَّة فالرضا الذي منهم عن اللَّه لا ينفع المستدل في شي ء ممَّا يروم إثباته (1) 164.
وأمَّا الرضا الذي من اللَّه عنهم فعمومه لجميعهم هو محل الكلام، فإنَّه من الأمور التي تتَّسع وتضيق على حسب متعلَّق الرضا، فإن كان وسيعاً عاماً كان الرضا كذلك، وإن كان ضيقاً فهو كذلك أيضاً.
ص: 104
وهنا نجد أنَّ الرضا قد صدر عن خصوص مَنْ سبقت له الهجرة، بل ليس كلّ من سبقت له الهجرة، وإنَّما خصوص الأوائل منهم، وثابت لمن سَبَقَتْ منه النصرة للنبي صلى الله عليه و آله، لا لكل صحابي من الأنصار.
بل يمكن لنا القول بأنَّ الهجرة الممدوحة والمرغوب فيها من قبل اللَّه عزَّ وجلَّ هي خصوص الهجرة إلى اللَّه وفي اللَّه، كما في قوله تعالى: الذِّينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ.. (1) 165 وقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُج مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرَاً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ يُدْرِكهُ المُوتُ.. (2) 166.
وهكذا أكثر الآيات الذاكرة للهجرة أو النصرة، كما في قوله تعالى: يَاأيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بن مَرْيَم لِلحَوَارِيينَ مَن أَنْصَارِي إلَى اللَّه (3) 167.
ثالثاً: يمكن النقض على هذا المدَّعى ببعض الآيات الأخر التي لا يمكن له الالتزام بها، ففي مثل قوله تعالى: الذِّينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّه وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ...، فهذه تثبت المدح بالصلاة من اللَّه على كل من أصابته مصيبة فقال هذا القول، ولو كان القائل غير مؤمنٍ.
ص: 105
فما يتشدق به هذا الكاتب من مدحٍ مدَّعى للصحابة، وقد استفاده من الآية، ليس ممَّا يوجب اختصاصاً لهم بالمدح دون غيرهم من الناس.
وكذا في قوله تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُم لَهُم جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً رَضِي اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الفَوز العَظِيم (1) 168.
وقوله تعالى: إنَّ المُسلِمِينَ وَالمُسلِمَاتِ وَالمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَات وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَّاشِعِين وَالخَّاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُم وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرَاً وَالذَّاكِرَاتِ أعدَّ اللَّهُ لَهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمَاً* (2) 169.
فهل يلتزم الكاتب بثبوت الرضا لكل من كان صادقاً ولو لم يكن جامعاً للصفات الأخرى الموجبة لدخول الجنَّة والخلود فيها؟
وهل يقبل الكاتب أن يكون كل من تحصَّل على واحدة من هذه الصفات، المذكورة في الآية الثانية يكون مستحقاً للمغفرة والأجر العظيم، ولو لم يكن جامعاً للصفات المعتبرة في المستحق
ص: 106
للمغفرة ممَّا لم يذكر في الآية، كصفة الثبات في القتال وعدم الفرار من الزحف، وصفة الإطاعة للَّه وللرسول والوفاء بالعهد والأمانة والانصياع لأوامره ونواهيه، وصفة المصلي المؤدي للحج و.. و.. و، فهل يلتزم الكاتب بهذا هنا؟
وكل ما يجيب به على هذا نجيب به على مدَّعاه في الآية.
رابعاً: قد اختلف في المراد بالسابقين من المهاجرين، مَنْ هم؟
فقيل: إنَّهم من صَلَّوْا القبلتين.
وقيل: الذين شهدوا معركة بدر.
وعن الشعبي: من بايع بيعة الرضوان ما بين الهجرتين، ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين (1) 170.
وعلى كلّ حال: فسواء جعلنا المهاجرين والأنصار مِصْدَاقَيْ «السابقون» بكسر كلمة الأَنْصَارِ أو جعلنا الأنصار معطوفاً على السَّابِقُون فيرتفع، فيكون قسماً آخر في مقابل السَّابِقُون فهذا لا يغيّر في النتيجة شيئاً، وذلك لأمرين:
1- أنَّ موضوع السَّابِقُون مجمل غير مبيَّن، حيث قد تقدم اختلاف المفسرين في المراد بهم من هم؟ أو هو مبيَّن ولكنَّه خاص بطائفة منهم، لا أنَّه لكل الصحابة.
ص: 107
2- أنَّ الأنصار لا يمثّلون كلّ الصحابة، فثبوت تعلق الرضا بهؤلاء أو بجميعهم لا يوافق مدَّعى الكاتب من عدالة كل الصحابة- مهاجرةً وأنصاراً- كما لا يخفى، خاصَّة مع وصف المهاجرين بأنَّهم الأولون، وأوَّل من أسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام.
فإنَّ العرب تستعمل في كلامها لفظ الجمع وتريد به شخصاً واحداً.
وقد وردت بعض الروايات المفسرة للآية- موضع البحث- بأفراد معينيين، وهذا واضح.
خامساً: يمكن النقض على المستدل بالآية على عموم الرضا لكل الصحابة، وهو هذا الكاتب وأمثاله:
بأنَّ هذه الآية مع تحديد السابقين في الهجرة بما بين البيعتين، أو ما كان قبل معركة بدر؛ بعدم شمولها للمهاجرين في السنة السابعة وما بعدها، إذ أنَّ بيعة الرضوان كانت في السنة السادسة من الهجرة، وكذا مِن الأنصار مَنْ تأخرت نصرته للنبي صلى الله عليه و آله عمَّن كانوا أوَّل قدوم النبي المدينة، فإنَّهم ليسوا من السابقين في النصرة، فلا تكون شاملة لكل الصحابة (1) 171.
ص: 108
سادساً: ليس من الممكن أن تدل الآية على عدالة كل الصحابة؛ وذلك لكون الآية في سورة التوبة، وهي مدنيَّة بعد ظهور الإسلام وعلوِّ شأنه، ولذا اشتملت هذه السورة على فضح الكثير من أعمال المنافقين حتى كان البعض منهم كلَّما رأى حذيفة يسأله: هل نزل فيَّ شي ءٌ خوفاً من فضحهم (1) 172، ولذا فمن أسماءها الفاضحة.
فياترى: هل يمكن الالتزام ببقاء الرضا عنهم من قِبَل اللَّه حتى بعد ذلك، ولو فعلوا ما فعلوا من مخالفات شرعيَّة في حياة النبي صلى الله عليه و آله أو بعد وفاته صلى الله عليه و آله؟
هذا ما لا يمكن الالتزام به من أي عاقل فضلًا عن عالم، وقد سبق منَّا ذكر بعض الأمور التي جرت بين الصحابة أنفسهم، أو بينهم وبين النبي.
ومن أهم ما جرى بينهم وبين النبي فيما بعد هذه الآيات حادثة الدواة والكتف، وحادثة تنفيذ جيش أسامة، بل أعظمها على
ص: 109
القلب، وهو محاولة اغتيال النبي في قضيَّة دحرجة الدِّباب.
فأمَّا الحادثة الثانية: فقد رواها لنا البخاري فقال: بعث رسول اللَّه بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمرته! فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: إن كنتم تطعنون في إمرته فقد طعنتم في إمرة أبيه من قبل، وأَيْمُ اللَّه إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده (1) 173.
وأمَّا الحادثة الأولى: فقد حدَّث البخاري بها كذلك، فلنستمع له يحدثنا بها كما رويت له: لمَّا اشتدَّ بالنبي صلى الله عليه و آله وجعه قال:
ائتوني بكتاب أكتبُ لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إنَّ النبي صلى الله عليه و آله غلبه الوجع، وعندنا كتاب اللَّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط! قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: الرزيَّة.. كل الرزيَّة ما حال بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبين كتابه (2) 174.
وحدَّث بها مسلم في صحيحه هكذا: اشتدَّ به صلى الله عليه و آله وجعه فقال:
ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا.
ص: 110
فقال بعضهم: إنَّ رسول اللَّه يهجر (1) 175 استعيدوه... (2) 176.
وفي رواية ثالثة: قال عمر: إنَّ النبي صلى الله عليه و آله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن وحسبنا كتاب اللَّه، مَنْ لفلانة وفلانة؟- يعني مدائن الروم، إنَّ النبي صلى الله عليه و آله ليس بميّت حتى يفتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى» (3) 177.
فلغطوا واختصموا، فمنهم من يقول ما قال عمر (4) 178، ومنهم من يقول: قرِّبُوا يكتب لكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً.
فلما أكثروا اللغط وغمُّوا رسولَ اللَّه قال: قوموا عني (5) 179.
فهذه نماذج ممَّا جرى مع النبي صلى الله عليه و آله من الصحابة، بل من كبراءهم، بل من السابقين- عندكم- الأوَّلين من المهاجرين، كل هذا في أواخر أيَّام حياته، فكيف بما بعد وفاته من أمور وحوادث نصفح عنها تنزهاً، وحفاظاً على القارى ء المحترم عن الملالة، وإعادة ذكر ما هو من المسلَّمات في التاريخ والحديث، ممَّا جرى
ص: 111
منهم على ابنة نبيِّهم الزهراء البتول، وزوج ابن عمِّ الرسول عليها السلام (1) 180.
والخلاصة أنَّنا لا ننكر فضلًا للصحابة أثبته اللَّه لهم، ولكن ليس لكل من يدَّعى أنَّه من الصحابة مثل ذلك الفضل، بل للبعض منهم فقط، بل إنَّ بعضهم ممَّن أساء للنبي صلى الله عليه و آله، فهل نعدُّ إساءته فضلًا؟
وأخيراً..: لا يفتأ هذا الكاتب يفهم الأشياء فهماً معكوساً على أثر عدم معرفته بمصطلحات العلوم كالمنطق وأصول الفقه، وحتى مداليل اللغة: فهو يقول: «انظر إلى العموم في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُون، ولا نعلم أي عموم فيه!
ويقول: مِنْ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار نعم الذين هاجروا مع النبي والذين نصروه هم السابقون...»؟!!.
عجباً؛ كيف يعكس المعنى؟ فالآية تُخصص الرضا بمن سبقت منه الهجرة، وبمن سبقت منه النصرة، وهذا يقول كل مَنْ تحققت منه الهجرة، وكل من تحققت منه النصرة فهو مشمول بالحكم
ص: 112
بالرضا.
فانظرْ للفرق بين المعنيين!! وانع- أيُّها القارى ء- على هذا الكاتب فهمه للعبارة العربيَّة.
إنَّ من مميزات سورة التوبة أنَّها من آخر ما نزل على النبي من السور؛ فقد كانت في السنة التاسعة من الهجرة، وكان أكثرها لفضح المنافقين ومرضى القلوب، وكانت غزوة تبوك بخروج النبي صلى الله عليه و آله من المدينة لمحاربة الروم، وللثأر لجعفر بن أبي طالب ومن مات معه من المؤمنين في معركة مؤتة، وكان عدد مَن معه ثلاثين ألف رجل، منهم عشرة آلاف فارس، ولكن انفصل- في موضع خارج المدينة- عبداللَّه بن أبي بمجموعة من الجيش يقدر بالثلث، وصاروا يُثبِّطون الخارجين مع النبي صلى الله عليه و آله عن الخروج معه.
ثمَّ إنَّ الآيات التي وردت في حق هذه الغزوة يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام:
الأول: ما يشير لتثاقل الناس عن الخروج للجهاد بعد ثرائهم واشتغالهم بأموالهم وأعمالهم، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا مَالَكُم إذَا قِيلَ لَكُم انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُم إلَى الأَرْضَ
ص: 113
أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا مِن الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاة الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ* إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُم عَذَابَاً أَلِيمَاً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُم وَلا تَضُرُّوهُ شَيئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شي ءٍ قَدِيرٌ* التوبة: 38- 39.
وقال تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضَاً قَرِيبَاً وَسَفَراً قَاصِدَاً لاتَّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَت عَلَيْهِم الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَو استَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُم يُهلِكُونَ أَنْفُسَهُم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهُم لَكَاذِبُون التوبة: 42.
ففي هذه الآيات عتاب شديد من اللَّه عزَّ وجلَّ للصحابة على عدم نفرهم لمَّا استنفرهم الرسول صلى الله عليه و آله، وتعييرٌ مع تبيين لواقع حالهم بأنَّهم قد رضوا بالحياة الدنيا وبِلَذَّاتِها، وفضَّلوا ذلك على نعيم الآخرة وجنَّاتها.
ثمَّ تهديد ووعيد شديد اللهجة منه تعالى لهم بأنَّه إن لم تنفروا ينزل عليكم العذاب الأليم، ولا تكونوا مستحقين لصحبة مثل هذا النبي العظيم فيستبدل قوماً غيركم، وليس في ذلك أدنى ضرر عليه.
فياترى: هل أنَّ هذا العتاب والتهديد منه تعالى كان للصحابة أم كان للكفار أو للمنافقين؟؟
ولمزيد تأكيد واقع حالهم يبين حقيقة نواياهم بأنَّ همَّتهم قد ضعفت وصارت إلى درجة أنَّهم يستحبون السفر القريب و
ص: 114
المغنم الواضح المقصود، وأمَّا مع بُعدُ الشُّقَّة عليهم فيتطلبون المعذرة منك لعدم استطاعتهم ذلك، بل يُقسِمُونَ على هذا، مع علم اللَّه بكذبهم.
الثاني: ما يتعلَّق بالمقابلة بين ما يجب على المسلمين والمؤمنين عمله لأجل التهيؤ للجهاد، وما صَدَرَ منهم في الخارج:
قوله تعالى: انفِرُوا خِفَافَاً وَثِقَالًا وَ جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُم وَأَنْفُسِكُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُم خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُون التوبة: 41.
وقوله تعالى: وَإذَا أُنْزِلَت سُوْرَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَع رَسُولِهِ استَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُم وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ القَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* التوبة: 86- 87.
فهذه الآيات تبين ما كان مفترضاً أن يقوم به المسلمون من النفر للجهاد وبذل الغالي والنفيس من المال والنفس والولد.
ولكنَّ الأمر المؤسف ما عبَّرت عنه الآية الثانية من تثاقلهم واعتذارهم بطريقة شبه مؤدبة؛ وهي الاستئذان منك في عدم الخروج، فنزل القرآن مُبَكِّتاً لهم، وذامَّاً لفعلهم، بعدم الفقه لأمر هذا الدين، وأهميَّة الجهاد في سبيله.
فياترى- أيها الكاتب المحترم- هل أنَّ هؤلاء من الصحابة أم من غيرهم؟ ألا بربِّك قل لي.
ص: 115
الثالث: ما يتعلق بأمر المنافقين وهو آيات كثيرة نذكر منها:
قوله تعالى: وَمِنْهُم الذِّينَ يُؤذُونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلذِّينَ آمَنُوا مِنكُم وَالذِّينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللَّه لَهُم عَذَابٌ أَلِيم التوبة: 61
يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تَنْزُلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُل استَهْزِؤا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ* وَلَئِن سَأَلْتَهُم لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُم تَسْتَهزؤن* لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُم إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُم نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأنَّهُم كَانُوا مُجرِمِينَ* التوبة: 64- 66.
وقوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَاقَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِم وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقِمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُم اللَّهُ وَرَسُولُه مِن فَضْلِهِ فَإنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُم وَإنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُم اللَّهُ عَذَابَاً أَلِيمَاً فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم فِي الأَرْض مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ* التوبة: 74.
ففي هذه الآيات صفات للمنافقين ممَّن صحَّت منه الصحبة للنبي، ولو لفترةٍ ما، وآمن به وروى عنه، ثمَّ صدر منهم النفاق، ولكنَّ كل ذلك لم يمنع اللَّه عزَّ وجلَّ من أن يُنزِل فيهم قرآناً يُتلَى،
ص: 116
فضحاً لهم وتعريضاً بمواقفهم الخاذلة للنبي (1) 181.
هذا مع سبق بيعتهم للنبي وعهدهم له بعدم الخذلان وبالنصرة له في كل المواقع، فنقضوا العهد وخالفوا ما بايعوا النبي عليه.
وأمَّا الآية الثانية: فقد قيل بأنَّها نزلت في الجُلَاس بن سويد بن الصامت بن خالد الأوسي، وقيل في عبد اللَّه بن أبي، وقيل في أهل العقبة (2) 182.
فإنَّه صلى الله عليه و آله لمَّا كان في غزوة تبوك قال الجُلَاس بن سويد: واللَّه لئن كان ما يقول محمدٌ حقاً لإخواننا الذين خلَّفناهم، وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير.
فنقل ذلك الكلام إلى رسول اللَّه ربيبُهُ عامر أو عمير بن قيس الأنصاري فاستدعاه الرسول صلى الله عليه و آله فأنكر، فرفع عامر يديه نحو
ص: 117
السماء وقال: اللهم أنزل آية في تكذيب الكاذب وتصديق الصادق منَّا، فنزلت هذه الآية، فتاب عندئذٍ الجُلاس وحسنت توبته وإسلامه.
وأمَّا القول بنزولها في أهل العقبة، ففيها إشارة لما اتفقوا عليه من الهمِّ بقتل النبي ودحرجة الدباب عليه أو قطع زمام ناقته حتى تسقط به في الوادي، وذلك عند مرجعه من تبوك (1) 183:
تواثق خمسة عشر رجلًا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة يسوقها (2) 184، فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم
ص: 118
إليكم يا أعداء اللَّه فهربوا (1) 185.
وفي رواية: أنَّ أسيد بن حضير سأل الرسول صلى الله عليه و آله عن سبب تخلفه عن القوم ومشيه في الليل عبر العقبة، فقال: أتدري ما أراد المنافقون البارحة؟
قال: وماذا أرادوا؟
قال: أرادوا أن يقطعوا أنساع راحلتي وينخسوها حتى يطرحوني من راحلتي.
فقال له: عيِّنهم فيقتلهم أهل عشيرتهم، وإن شئت عيِّنهم لي فلا تبرح حتى آتيك برؤوسهم.
فقال رسول اللَّه: إني أكره أن يقول الناس إنَّ محمداً لمَّا انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه (2) 186.
وليس غائباً عنك ما رواه مسلم بسنده عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و آله أنَّه قال: «في أصحابي إثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنَّة حتَّى يلج الجمل في سَمّ الخياط» (3) 187.
ص: 119
ولا يفوتنَّك قول النبي صلى الله عليه و آله «في أصحابي»، وكذا قوله «قتل أصحابه» في الرواية السابقة.
الرابع: ما يتعلّق بمدح أمير المؤمنين والمؤمنين معه، وكذا ما يتعلّق باستقبال الوفود: قوله تعالى: لكِن الرَّسُول وَالذِّينَ مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم وَأُولَئِكَ لَهُم الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُم المُفْلِحُونَ* التوبة: 88. ممَّا لا شك ولا ريب فيه لدى كل متتبع لمواطن نزول الآيات القرآنية، وهو ممَّا لابدَّ وأن يحصل به القطع:
أنَّه لا توجد آية مدحٍ في القرآن إلا وعليٌّ على رأس الممدوحين فيها.
وقيل بأنَّ موارد مدحه عليه السلام بلغت ثلاثمائة آية (1) 188، بل نُسِب إلى أحمد بن حنبل أنَّه قال: لم يصلنا من روايات الفضائل في أحد من الصحابة ما وصلنا في علي بن أبي طالب عليه السلام (2) 189.
إن قلت: من المعروف تاريخياً أنَّ أمير المؤمنين لم يكن مع النبي في هذه الغزوة، بل بقي في المدينة، فكيف يكون مشمولًا بها؟
قلتُ: إنَّ المدح في الآية لمن كان مع النبي، وليس المقصود خصوص المعيَّة البدنيَّة، وإلا فقد كان معه الكثير من المنافقين، ولا يمكن أن تكون الآية شاملة لهم بالمدح، بل يمكن لنا دعوى
ص: 120
عدم إرادة المعيَّة البدنيَّة أصلًا، وأنَّ المراد مَن كان معه على الحقِّ وعلى الدعوة للَّه عزَّ وجلَّ، ولهذا الدين.
ولا شكَّ أنَّ أمير المؤمنين هو أوَّل من كان معه على هذه الدعوة، فهل تتعقل أن تخرجه عن دلالتها وتدخل الأباعد والمتأخرين في هذه الدعوة؟ وإنَّما أبقاه النبي صلى الله عليه و آله في المدينة محافظاً عليها عن انقلاب المنافقين وإفسادهم، حيث تخلف فيها الكثير منهم والمتربِّصُون بهذا الدين الدوائر، وأي جهاد أعظم من هذا؟
مع عدم حبِّه عليه السلام للتخلّف، لفرط رغبته في مصاحبة الرسول صلى الله عليه و آله في كل غزواته، بل كان متعطّشاً للذهاب معه، ولكنَّ طاعته الكبيرة للرسول جعلته يمتثل أمر النبي بالبقاء، بل كان اختياره البقاء أحد فردي التخيير بينه وبين خروجه وبقاء النبي في المدينة- كما دلَّت عليه الروايات-، ولذا لم يرد عندنا ولا عند العامَّة أن خرج علي عليه السلام في جيش أو غزوة أو سريَّة مأموراً، بل كان فيها كلِّها هو الأمير، ولذا كان من ألقابه أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه.
وهاك بعض الشواهد على مدائح علي:
أحدها: لمَّا عزم الرسول صلى الله عليه و آله على الخروج لغزوة تبوك قال لأمير المؤمنين: إمَّا أن تخرج وأبقى في المدينة، وإمَّا أن تبقى وأخرج، فإنَّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك (1) 190.
ص: 121
فقبل عليٌّ بأن يبقى في المدينة، ولكن لمَّا شارف الرسول على الخروج بالجيش تكلَّم المنافقون في عليٍّ وقالوا: «لو كانت له في ابن عمه حاجةٌ لأخرجه معه»! فتأثر أمير المؤمنين لذلك (1) 191 وأخبر النبي بما قالوا، فقال له: «أما ترضى أن تكون منّي بمزلة هارون من موسى إلّاأنَّه لا نبيَّ بعدي» (2) 192 ثانيها: لمَّا قدم وفد ثقيف على رسول اللَّه في شهر رمضان، سألوه أن يدع اللات لهم مدَّة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى عليهم ذلك، وقال لهم النبي: لتسلمنَّ أو لأبعثنَّ إليكم رجلًا مني أو كنفسي، فليضربنَّ أعناقكم، وليأخذنَّ أموالكم، وليسبينَّ ذراريكم.
فقال عمر: فجعلتُ أنصب صدري وأقوم على أطراف أصابعي؛ رجاء أن يقول: هو هذا، فالتفتَ إلى عليٍّ فأخذ بيده وقال: هو هذا، هو هذا (3) 193.
ص: 122
ثالثها: حادثة تبليغ سورة براءة، وقد مرَّ منَّا ذكرها، وفيها أنَّ الرسول صلى الله عليه و آله قال لأبي بكر:... أُمِرتُ أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي (1) 194 أو مني (2) 195.
رابعها: وفد نصارى نجران، وقصَّة المباهلة المعروفة المشهورة؛ بل المدعى تواترها: حيث إنَّهم بعد أن وفدوا على النبي صلى الله عليه و آله تدارسوا أمر المسيح، فردَّدعواهم وكلَّف الرسول صلى الله عليه و آله بمباهلتهم إن أصرُّوا على ذلك، وطلبوا المباهلة، وفي يوم المباهلة جاء الرسول، وفي إحدى يديه الحسن، وفي الأخرى الحسين، وتتبعه فاطمة، وأمير المؤمنين: بين يديه أو خلفهما، فلمَّا رأوا ذلك خافوا وقالوا: لا نباهلك، ولكن ندفع الجزية، فكتب عليّ ذلك الصلح بينهما.
فياترى: لمَ لم يباهل الرسول العظيم بأصحابه؛ وهم هم- كما تراهم- ألا يوجبون استجابة دعاءه؟
ألم يكن الرسول واثقاً في أصحابه تمام الثقة؟
ولمَ لم يعترض الصحابة عليه- كما اعترض بعضهم في موارد
ص: 123
أخرى- على أخذ الحسنين والزهراء وأمير المؤمنين عليهم السلام؟
ألم تفكر في كل هذا أيُّها الكاتب القدير؟
ولمَ لم تشر في كتابك إلى مثل هذه الوفود، وما جرى بينها وبين النبي صلى الله عليه و آله؟
ألم يكن خوفاً من أن تُلزَم بالتعرض لمثل هذه المقامات الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام؟
خامسها: بَعْثُ النبي صلى الله عليه و آله إلى اليمن: فقد بعث بعثين.
أحدهما- وهو أولهما- بعث خالد بن الوليد وبقي فيهم ستة أشهر ولم يسلموا.
ثمَّ بعث أمير المؤمنين عليه السلام إليهم فلمَّا وصلهم وقرأ عليهم كتاب الرسول صلى الله عليه و آله أسلمت همدان جميعاً في يوم واحد، فأرسل للنبي بذلك، فسجد صلى الله عليه و آله شكراً للَّه، وكان أن اصطفى له جارية منهم، فأرسل خالد مع بريدة رسالةللنبي صلى الله عليه و آله يخبره بذلك، فغضب النبي صلى الله عليه و آله لذلك وقال: «لاتقع في علي فإنَّه مني وأنا منه وهو وليُّكم بعدي» (1) 196.
أليس في هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد؟
وبعد كل هذه المواقف والمقاطع السريعة مع هذا الكاتب نراه
ص: 124
يعود ويكتب آيات كريمة أخرى من القرآن:
فمنها: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالذِّينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُّفَارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَرَاهُم رُكَّعَاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانَاً سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُم فِي التَوْرَاةِ وَمَثَلُهُم فِي الإنْجِيل (1) 197.
ومنها: يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ* يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُم فَوْقَ صَوْت النَّبِي (2) 198.
ومنها: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً (3) 199.
فهذه الآيات تعطي خلاف ما يرومه هذا الكاتب، فمدَّعاه هو عدالة كل الصحابة، وشدة إخلاصهم وإيمانهم بالنبي صلى الله عليه و آله.
ولكنَّ الآية الأولى هنا- مثلًا- غاية ما تفيده هو تحقق هذا الوصف لجماعة خاصة، وهم خصوص الذين معه، وقد سبق منَّا القول بأنَّه لا يمكن الالتزام بأنَّهم جميع مَن يكونون معه بأبدانهم، وإلا فالكثير ممَّن كان معه بأبدانهم كانوا ممَّن نزلت فيهم آيات المنافقين.
ص: 125
بل المراد بالآية الذين معه على هذا الأمر الجامع، وهو الدين الخالص الذي يدعو له مرسَلًا به عن ربِّه، علاوة على أنَّا لا نمنع ثبوت مثل هذه الصفات لبعض الصحابة بل لكثير منهم، ولكنَّ هذا الكثير يقابله من لم يكونوا كذلك.
وأمَّا في الآية الثانية فهي تنهى عن التقدم- في الأمر و النهي- على النبي صلى الله عليه و آله، أو التقدم في الأفعال أو الإقصار عنه صلى الله عليه و آله، ونقول:
ينبغي لكم أيها الصحابة أن تسيروا على طبق أوامره ونواهيه:
ومَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فَانتَهُوا (1) 200 دون تقدم عليها أو تثاقل ولا تأخر عن أدائها.
ولكنَّ- أخي القارى ء- إليك مثالًا من واقع حياة الصحابة مع النبي صلى الله عليه و آله تبين لك كيفية امتثالهم لمفاد الآية:
وهو ما قدَّمنا ذكره من حديث صلح الحديبيَّة، لمَّا جرى الصلح وأراد النبي الإحلال من إحرامه حيث صُدَّ عن دخول البيت فأمر أصحابه بالحلق والذبح امتنعوا، وجرى بينهم ما جرى حتى دخل على أم سلمة وشكى لها قومه، فأشارت عليه بالخروج والحلق والذبح دون اعتبار بهم ففعل فقاموا وفعلوا كذلك، وقد مرَّ تخريج مصدرها (2) 201.
ص: 126
وكذا ما ورد عن عائشة لمَّا أمر الناس بالإحلال بالعمرة تعاظم ذلك عندهم (1) 202 وفشت في ذلك القالة (2) 203، فقالوا: ننطلق إلى منى وذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ مَنِيَّاً (3) 204، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقام خطيباً فقال: بلغني أنَّ أقواماً يقولون كذا وكذا، واللَّه لأنا أبرُّ وأتقى للَّه منهم، قالت عائشة: دخل النبي عليَّ وهو غضبان، فقلتُ: من أغضبك يا رسول اللَّه؛ أدخله اللَّه النار.
قال: أو ما شَعَرْتِ أني أمرتُ الناس بأمر فإذا هم يترددون (4) 205.
وأمَّا في الآية الثالثة فاستمع لما ذكره المفسرون:
قال بعضهم: لمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يارسول اللَّه؛ واللَّه لا أكلمك إلا السِّرار أو أخا السِّرار حتى ألقى اللَّه، وعن عمر أنَّه كان يكلم النبي صلى الله عليه و آله كأخي السِّرار لا يسمعه حتى يستفهمه (5) 206.
ص: 127
ولكن فلنستمع لأصل القصة لنعرف منها لِمَ قالا ذلك:
فقد أخرج في الدرِّ المنثور عن البخاري وابن المنذر والطبراني عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر: رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه و آله حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس (1) 207 وأشار الآخر برجل آخر (2) 208.
فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي!.
قال: ما أردتُ خلافك.
فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل اللَّه: يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُم... قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول اللَّه بعد هذه الآية حتى يستفهمه» (3) 209.
وحينما نأتي بمثل هذه الشواهد ليس غرضنا خصوص الشخص المعيَّن، بل بما أنَّه أحد الصحابة، فتنتقض القضية الكليَّة التي يدَّعيها الكاتب من الحكم بعدالة كل الصحابة، وعدم جواز نقدهم.
وإن كان يغلب في الظن أنَّه لا غرض له في كل الصحابة، ولكنَّه الطريق الوحيد لتعديل جماعة السقيفة على أقل
ص: 128
التقديرات، وصبغهم بهالة قدسيَّة تمنع من التفوُّه عليهم ولو ببنت شفة.
ولعل الكاتب لم يذكره لوضوح الفضيحة فيه، إذ نزل فيه قرآن يتلى، فكيف يواري سوأة مَن يمسَّهم مِن الصحابة عن ذلك، فليس من طريقة إلا إغفال الذِكْرِ لعلَّ القارى ء يغفل أيضاً عن ذلك.
قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُم اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينٍ إذْ أَعْجَبَتْكُم كَثْرَتُكُم فَلَم تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَل اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّب الذِّين كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِين التوبة: 25- 26.
فقد كان جيش الرسول صلى الله عليه و آله لحرب قبيلة هوازن اثنا عشر ألفاً، منهم عشرة آلاف الذين اشتركوا في فتح مكَّة، وألفان ممَّن أسلم في مكَّة، وقد عجبوا، بل اتكلوا على كثرتهم، فقال بعضهم:
«لا نُؤتَى من قِلَّة» فكره ذلك رسول اللَّه منهم، وقد اختبأت هوازن في الوادي، ثمَّ لما خرجوا على المسلمين انهزم المسلمون و وَلَّوْا الدبر، حتى لم يبقَ مع الرسول إلا عشرة وقيل تسعة: علي بن أبي طالب والعباس عم النبي- وهو المنادي في الفارِّين: ياأهل
ص: 129
بيعة الشجرة.. يا أهل سورة البقرة..- وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة أخوهم، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبداللَّه بن الزبير، وقيل أيمن بن أم أيمن (1) 210.
وعن بعض مصادر الشيعة: «إنَّ الناس فروا جميعاً يوم حنين عن النبي صلى الله عليه و آله إلا سبعة: أبو سفيان وربيعة ونوفل أبناء الحارث، والعباس وابنه الفضل وأمير المؤمنين وأخوه عقيل والنبي على بغلته الدلدل...» (2) 211.
فهل الفارُّون والمُوَلُّون الدُّبُرَ الأصحابُ أم الأغيار؟
وهل أنَّ فعلهم مساوٍ لمن ثبت مع النبي؛ ألا بربك قل لي!!؟
وفي هذه الغزوة وبعد أن انتصر على هوازن حاصر الطائف، وأمَّر علياً على كسر الأصنام، وبعد أن أدَّى مهمَّته رجع فكبَّر النبي صلى الله عليه و آله، وناجى علياً طويلًا، يقول جابر: أتاه عمر بن الخطاب فقال: أتناجيه دوننا وتخلو به؟ فقال: يا عمر ما أنا انتجيته بل اللَّه انتجاه» (3) 212.
ص: 130
فقد علم القارى ء المحترم... الآن؛ لِمَ انحرف قلم هذا الكاتب عن ذكر بعض الغزوات أو بعض الوفود القادمة على النبي، فليس ذلك إلا محاولة لإطفاء نور اللَّه عزَّ وجلَ يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُون (1) 213، وتستراً على فضائل عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام والتي ملأت- مع إخفاء أوليائه خوفاً وإخفاء أعداءه حسداً- الخافقين.
والذي نخرج به من هذه الدراسة عدَّة أمور:
الأوّل: إنَّ أهل السنَّة ينقسمون في هذا الزمان، من حيث اعتبار الروايات إلى قسمين:
قسم لا يعتبر من الروايات النبويَّة- عملًا وإن لم يصرحوا به- إلا صحيحي البخاري ومسلم، وهؤلاء هم ما يسمون في هذا الزمان بالفرقة الوهابيَّة والسلفيَّة، فلا يرون المناقشة في أسانيد رواياتها.
وقسم يعتبرون بالكثير من المصادر الحديثيَّة و التاريخيَّة قوَّة أو فعلًا (2) 214، علاوة على الصحيحين، لو صحَّ سندها.
ص: 131
فأمَّا القسم الأول: فهم يرون أنَّ ما كان موجوداً في هذين الصحيحين لا يُحتَاج إلى البحث في سنده، بل هو معتبر مطلقاً.
وأمَّا القسم الثاني: فهم يرون عدم الفرق بين الصحيحين وغيرهما من الكتب، بل كل كتاب وردت فيه روايات منسوبة للنبي وصحَّ سندها فهي ممَّا يجب العمل بها، وكل رواية ثبت ضعف سندها أو لم يثبت صحته، فهي مطرحة ولا يصح العمل بها.
ونحن- بما أنَّنا لحظنا كلا القسمين، وأردنا أن يكون الرد لهذا الكاتب شاملًا لأكبر قدر ممكن من القُرَّاء- حاولنا الجمع بين المبنيين، فنقلنا الروايات من الصحيحين ومن الكتب الأخرى، علماً بأنَّ المبنى الأول واضح الفساد جداً، ولم تصر إليه إلا شرذمة من المتأخرين المدَّعين لاتباع السلف، وأتباع ابن تيميَّة وابن حزم وابن القيم، ومن سار على خطّهم، ونشر أفكارهم ممَّن يدين بالدعوة الوهابيَّة في هذا الزمان.
فالذي نتمناه أن لا يكون هذا الكاتب من أتباعها ودعاتها، فإنَّ من ينتمي إليها، فمذهبهم عدم قبول نظر أي طرف آخر، بل يترقى لتكفير كل من يخالفهم في الرأي فمنطقهم: أنت معنا وإلا
ص: 132
فأنت كافر (1) 215.
ولذا؛ فيمكن لنا القول: إنَّه في هذا الزمان ليس من موضع لمن يعيش مثل هذه العقليَّة الضعيفة في وسط المجتمعات المسلمة المتوائمة المحبَّة لكل من نطق بالشهادتين وأحبَّ أهل البيت عليهم السلام وعمل بما أمر به الرسول صلى الله عليه و آله من طاعتهم حيث يأمن الناس من يده ولسانه.
الثاني: ليكن من المعلوم لهذا الشيخ الكاتب للرسالة ولغيره:
أنَّ الدعوة لنقد بعض الصحابة، أو وضع أعمالهم على مائدة التشريح ليس فيه منقصة لكل الصحابة، بل حتى بالنسبة للصحابي الذي تحقق صدور الخطأ منه ثمَّ تاب عنه (2) 216.
فإنَّا لا نتحسَّس من أحد لشخصه وذاته مستقلةً عن أفعاله والمحيط الذي كان ينطلق منه في تصرفاته، بل إنَّ النقد أو الدراسة الفاحصة لحياة أحدهم ليست إلا لما صدر منه من أفعال مخالفة
ص: 133
لإرادة اللَّه، وللزوم الطاعة للنبي ولأولياء اللَّه المأمورين بطاعتهم في الآية القرآنيَّة: يَاأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم... (1) 217 وقوله تعالى: ومَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فَانتَهُوا (2) 218.
وكل ذلك لأجل الحفاظ على من ننقل عنه الأحاديث النبويَّة.
وهل في تطلبنا الحفاظ على ذلك غضاضة؟.
الثالث: لم يشر هذا الكاتب لما صدر عن أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام من كلمات في مدح الصحابة وصحبتهم للرسول صلى الله عليه و آله، سواء في نهج البلاغة أو في كلمات أخرى، وكذا ماكان في الصحيفة السجاديَّة و الروايات المتناثرة هنا وهناك، وهي معتقدنا في الصحابة الطيبين الذين أحسنوا الصحبة رضوان اللَّه عليهم.
و ما مرَّ حول ما ورد من آيات تشير لمدح الصحابة، فقد قلنا هناك بأنَّ مدحها مدح جمعي، لا أنَّه مدح للجميع واحداً واحداً، ومثل هذا المدح لا نمنع منه بل نُقِرُّه.
كيف؟ ومنهم مَنْ هو مِنْ خَوَاصِّ النبي وأمير المؤمنين عليهم السلام، وقد أبلى مع الرسول صلى الله عليه و آله بلاءاً حسناً، ومات على ما مات عليه
ص: 134
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كسلمان المحمدي، والمقداد بن عمرو، وعمَّار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، وأمثال خبَّاب بن الأرت، وعثمان بن حنيف وأخيه سهل بن حنيف حبيب رسول اللَّه، والمفدي بنفسه في المغازي كلها نفس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأبو دجانة الأنصاري، والمرقال هاشم بن عتبة، وخالد بن سعيد بن أبي عامر خامس من أسلم، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت، وجابر بن عبداللَّه الأنصاري، وقيس بن سعد بن عبادة، وأبي أيوب الأنصاري، ومالك بن الأشتر النخعي، والبراء بن عازب، وعبادة بن الصامت، ومالك بن نويرة.
و الكثير من الصحابة الذين وفوا بما عاهدوا اللَّه عليه، وماتوا على ذلك، وما بدَّلوا بعد وفاته فضلًا عن حال حياته.
الرابع: لقد لاحظنا كثيراً- من هذا الكاتب ومن غيره من الكتَّاب ممَّن اتخذ اسم السنَّة شعاراً ودثاراً- أنَّهم يتشبثون من الآيات بما يوافق هواهم وآراءهم، ويقومون باستبعاد كل آيةٍ فيها إشارة أو تلميح بفضل علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام، وكأنَّهم قد وقفوا أنفسهم على استمرار عمليَّة التعتيم على فضائلهم ومناقبهم، وما ورد في حقِّهم من قِبَلِ النبي صلى الله عليه و آله، وهو ذلك العمل الشنيع الذي قام به معاوية، وجرت سُنَّة الدولة الأمويَّة عليه، وكأنَّ هذه الأحاديث ليست صادرة عن النبي صلى الله عليه و آله، أو أنَّها لا تمُتُّ إليهم بصلة على الإطلاق، وأنَّهم ليسوا أهل بيت نبيهم
ص: 135
صلوات اللَّه عليهم أجمعين!!.
بل يحاول هذا الكاتب- مثلًا- أن يعتمد على إحياء الدعوة القديمة من مقولة: «حسبنا كتاب اللَّه»، فهو يرفع شعارها هنا منادياً بترك كل الروايات والكتب المتعلقة بتفسير الآيات، والاكتفاء بالقرآن.
وياترى: هل القرآن- على مرَّ هذه القرون الأربعة عشر- قد حلَّ كل خلافات المسلمين؟ والتأمت كل كُلُومِهِم؟ وسُدَّت كُلُّ ثغراتهم؟
بل يترقى إلى القول بأنَّ كل تلك الروايات محض أساطير تاريخيَّة (1) 219.
وهو أمر غريب جداً من مثله، وهبْ أنَّها أساطير فهل مرويات الصحاح أساطير أيضاً؟
سلَّمنا ذلك في غير الصحيحين، ولكن ما تقول في الصحيحين؟ فهل رواياتهم أساطير؟ أو تقول: قد دُسَّت فيهما؟
ومَن الذي دسَّها، وقد طُبِعَت في مطابعكم؟
والغرض من كل هذا ليس بيان اعتبارنا لمثل هذه الكتب، وإنَّما لأجل إلزامهم بما رووه، وفيما لو كانت الروايات التي ننقلها تتحمل كلمة كفر أو وصفٍ مشينٍ لبعض الصحابة، فهو ليس
ص: 136
منَّا، بل من رواياتهم الموجودة في كتبهم، وناقل كلمة الكفر ليس بكافر.
فالعجب أنَّهم يُكَفِّرُون الناقل في حين أنَّهم يلتزمون بعدالة الراوي والمؤلف فضلًا عن إيمانه، فما لكم كيف تحكمون؟
ولا يقف هذا الشيخ وأمثاله من الكتَّاب عند هذا الحد، بل تراهم يعتبرون بالرجل ويوثقونه ويروون عنه مادام لم يروِ فضيلةً لأهل البيت عليهم السلام، وبمجرد روايته لفضيلة في أمير المؤمنين عليه السلام يُضَعَّف، ويرمى بالمخازي وما يتنزه اللسان عن ذكره.
وأمَّا من يروي طعناً في علي- وهو من وضعه أو وضع مَنْ سَبَقَه في الرواية- فهو مُقَدَّم عندهم، وممَّن يُسْكَن إليه في الرواية، وممَّن ثبتت وثاقته وعدالته.
فقد رووا عن عمران بن حطَّان المادح في شعره لعبدالرحمن ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين عليه السلام، روى عنه البخاري ومسلم، وأخرجوا عن المغيرة بن مُقَسِّم كما وثَّقه الذهبي، مع أنَّه كان يحمل على عليٍ (1) 220.
وكذا أخرجوا عن قيس بن أبي حازم مع أنَّه يحمل على عليٍ (2) 221.
ص: 137
وأخرج مسلم والأربعة عن الفأفأ في حين أنَّ الذهبي نصَّ على كونه ناصبياً (1) 222.
كما أخرجوا عن حريز شيخ البخاري مع أنَّه كان يلعن علياً عليه السلام في كل يوم سبعين مرَّة؛ لعنه اللَّه وأخزاه.
فيا عجباً! كيف يكون الناصبي عادلًا وراوياً للسنَّة عن النبي صلى الله عليه و آله.
والحبل في هذا المسار طويل جرَّار لا نهاية له عندهم.
الخامس: ليس من الإنصاف والعدل- أيها الكاتب- أن تأمر بالتأمل في آيات القرآن، في حين أنَّك تمنع لحاظ الروايات المفسِّرة لتلك الآيات، وهل المفسِّر والمبيِّن لما أنزل إلا النبي صلى الله عليه و آله؟
وكيف نعرف تفسير القرآن إذا لم يبينه لنا الرسول ومَن عيَّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ورسوله عليهم السلام لحفظ القرآن وبيانه وتوضيحه للناس؟
فإنَّ معرفة ناسخه من منسوخه، ومجمله من مبيَّنه، و عامَّه من خاصِّه، ومطلقه من مقيده، ومكيِّه من مدنيِّه؛ كل تلك الأمور مرهونة بمعرفة النبي وأهل بيته عليهم السلام حقَّ المعرفة.
وأمَّا مع الانحراف عنهم، وعدم العمل بقولهم، وعدم الاهتداء
ص: 138
بهديهم، فهو عين الضلال المذموم في القرآن، وفي الروايات، ولم يكن ذلك الفعل من المتقدمين إلا حسداً وبغضاً لهم عليهم السلام بما أعطاهم اللَّه من فضله.
وقد مرَّ علينا سابقاً ما صنع النبي مع أمير المؤمنين من مناجاته له الطويلة، فغضب بعض القوم وقالوا له: ما لك أكثرتَ مناجاة ابن عمك دوننا؟ فقال: ما أنا ناجيته ولكنَّ اللَّه انتجاه.
كما أنَّنا نقرأ في التاريخ صورة واضحة من الحسد؛ يحكيها ابن عباس من حديثه مع عمر بن الخطاب أيام خلافته، فقد قال عمر لابن عباس: إنَّ قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوَّة والخلافة فتذهبون في السماء بُذَّخاً وشمَّخاً، لعلَّكم تقولون: إنَّ أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم؟ كلا؛ لكنَّه حضره أمرٌ لم يكن عنده أحزم ممَّا فعل، ولولا رأي أبي بكر فيَّ بعد موته لأعاد أمركم إليكم، ولو فعل ما هنَّأكم مع قومكم، إنَّهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جَازِرِه (1) 223.
وعلى هذا، فما ذكره هذا الكاتب في ختام رسالته من إمكان اجتماع حبّ النبي والآل مع حبّ الصحابة في قلب واحد، فهو ممنوع من جهة، وجائز من جهة أخرى:
أمَّا جهة منعه فهي منع الإطلاق فيه، فإنَّ حب النبي والآل عليهم السلام والصحب الكرام لخصوص الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه، و وفوا بذلك العهد، وماتوا على ذلك، هذا من الأمر المرغوب في
ص: 139
تحصيله من المؤمن، ولكن ليس كل الصحابة ممَّن يجب حبُّهم كحبّ النبي والآل، فإنَّ منهم من بدَّل وغيَّر وحرَّف، فهل نحبُّهم كما نحبّ النبي والآل عليهم السلام؟
هذا ما لا ترضاه لنفسك فكيف ترتضيه للناس؟
وأمَّا جهة الجواز؛ فهي حبّ الصحابة الذين لم يؤذوا النبي بل ناصروه، ولم يفرّوا، ولم يخذلوه أمام المشركين والكفار، وماتوا على ذلك، فهؤلاء هم الصحابة بحقٍّ، فليس من الممتنع أن يجتمع حبُّهم مع حب النبي والآل الكرام.
فنحن نحب اللَّه والنبي وأهل البيت والصحابة كسلمان والمقداد وأبي ذرِّ وعمَّار وخبَّاب والبراء والمرقال ومالك بن نويرة و.. و..، وهم من الصحابة، وإن كان حبُّنا لأهل البيت عليهم السلام لا يقاس به حب من عداهم من الخلق أجمعين (1) 224.
وعلى كل حال، فلم يَحِد هذا الكاتب عن سيرة سلفه، بل مشى على طريقتهم، وسار على هديهم، من الانحراف عن نهج أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يغرُّنا أو يُغَرِّر بنا أن كتب في غلاف كتابه كلمة لأمير المؤمنين، فإنَّها كلمة حق أراد بها- هذا الكاتب- باطلًا.
ص: 140
وكذا ليس ممَّا يوجب رفع عذره أن يقول بأنَّه يحبُّ علياً، فإنَّ للحب علامات وإشارات، لا نجد شيئاً منها على وجه كتابه، فضلًا عن تصرفاته وسائر أحواله، بل المُطَّلِع على حاله يرى العكس من ذلك، أعاذنا اللَّه من سوء المنقلب، واللَّه العاصم من كل سوء.
السادس: من الواجب علينا التنبيه على أمرٍ وهو: ضرورة توجه الأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات إلى من يحاول- في مثل هذه الأيام- أن يمزج السُّمَّ بالعسل، فيخلط كلامه السيّ ء المُبَطَّن بكلامٍ ظاهرُهُ حسنٌ، كمن يمزج دعواه الباطلة برهاناً ووجداناً بكلمة لأمير المؤمنين تحتمل أكثر من تفسير وأكثر من معنى، حتى لَيَظُنُّ القارى ء له أنَّه كلام كلُّه حق ويراد به الحق، فيسير وراء الكلمات دون علم، بل بغفلة عن حقيقة الأمر، جاهلًا إِلامَ توصله؟ وفي أي نَفَقٍ مظلمٍ تدخله؟ فتتوارد عليه الشُبَه من هنا وهناك في عقيدته وفي مبادئه الحقَّة، التي كرَّس أهل البيت عليهم السلام حياتهم كلها لتأسيسها وبيانها لشيعتهم أيدهم اللَّه.
ثمَّ يبدأ في طرح هذه الشُبَه في كل نادٍ يرتاده، وكأنَّها فاكهة المجلس، فيسري سمُّهَا إلى آخرين غيره دون أن يلقوا جواباً لها، وذلك لأنَّهم لا يطرحونها على أهل العلم ممَّن تخصصوا في هذا العلم.
فلابدَّ للمؤمنين و المؤمنات قبل أخذ الكتاب- أيّ كتاب كان-
ص: 141
أن يسألوا أهل العلم عن محتواه وآثاره، وبعد قراءته ينبغي على القارى ء له أن يعرض ما فهمه، وما انتقش في ذهنه على المختصين في العقيدة، قبل أن يلوكه بلسانه، في كل مجلس ومنتدى.
وممَّا يؤسف له ما وقع من الكثير من الناس ممَّن وردوا على هذه الوسائل الإعلاميَّة الحديثة، مع التفاتهم إلى أنَّها تحمل إعلاماً موجَّهَاً مشوهاً من قبل أعداء اللَّه ورسوله، يهدف في كثير من أطروحاته إلى بثِّ السموم في عقول الشباب، كل ذلك بعناوين خدَّاعة كالحريَّة في التعبير، وحريَّة الرأي، والبحث عن الحقيقة، ومثل هذه العناوين البرَّاقة، والجذَّابة، التي أخذت بمجامع قلوب الكثير ممَّن تاه وانجرف وراء تلك التيَّارات ولم يرجع، فخسر هو؛ وخسرت ساحة الإيمان بفقده خسارةً لا تعوض.
السابع: خلاصة نظر الشيعة الإماميَّة في الصحابة هو:
أنَّهم لم يفرضوا على أنفسهم قدسيَّة الصحابة ككل، بحيث يكونون في عزلة عن النقد والتجريح بعد التمحيص.
بل نظروا إليهم من حيث أعمالهم وسلوكهم، مع مقايسة تلك الأمور بالمقاييس والموازين الشرعيَّة والعقليَّة التي وصلت إليهم، وقام البرهان عليها.
فمن ثبت من الصحابة أنَّه قد حفظ العهد ولزم الحق واجتهد في اتباع الرسول والسير على نهجه في عقيدته وسلوكه، ولم يزغ عن ربّه، فقد استحق التعظيم والتبجيل، بل الموالاة والتقديس، إذ
ص: 142
بهم قام عمود الدين، وقد قال تعالى: إنَّ الذِّينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِم المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّة التي كُنْتُم تُوعَدُون* (1) 225
وأمَّا من نكث العهد، وفارق الحق، وغيَّر، وبدَّل، وانقلب على عقبه، فقد استحقَّ العذاب والوبال والبراءة منه واللعنة عليه، كما قال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً (2) 226. (3) 227
ال تعالى: والذِّينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ لَهُم اللَّعْنَةُ وَلَهُم سُوءُ الدَّار (4) 228.
هذا القول خاتماً به مقالي هذا، راجياً أن يصل إلى الكاتب وغيره من القُرَّاء، فيقرأُوه قراءةَ المتأمل المتأني، وليكن رائدهم طلب الحق أنَّى كان، دون حميَّة أو هوى أو تقليد أعمى أو عصبيَّة جاهليَّة، بل الحق أحق أن يتبع.
والحمد للَّه ربّ العالمين وصلّى اللَّه على محمّد وآله
الطيّبين الطاهرين.
(5) 229